بقلم:جمعة بوكليب
التفكير بعقلين أمر شائع بين الناس. والذين منّا يلجأون إليه يعني أنهم مترددون في اتخاذ قرار حاسم في أمر من أمورهم بسبب الحيرة. في عام 2016، وبعد ظهور نتيجة الاستفتاء على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، ظهرت في الصحف تقارير تقول إن السيد بوريس جونسون قائد حملة خروج بريطانيا من بروكسل قد أعد خطابين قبل ظهور النتيجة؛ خطاباً في حالة نجاح حملة التصويت بالبقاء، وآخر في حالة نجاح حملة التصويت بالخروج. وهو، في رأيي، تفكير صائب، لأن السيد بوريس، في تلك الأثناء، لم يكن متأكداً من إمكانية الفوز بالاستفتاء. لكنّه، في ذات الوقت، لم يفقد الأمل كلية. وكانت استبيانات الرأي العام تشير إلى تقارب الطرفين. وحين أعلنت النتيجة كانت مفاجأة للجميع، وفاز الانفصاليون بنسبة 2 في المائة فقط من الأصوات. لكن السيد بوريس كان مستعداً للمفاجأة.
خلال الانتخابات النيابية الأخيرة في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 فاز المحافظون بأغلبية كبيرة، وسحقوا خصومهم من الحزبين الآخرين: العمال والأحرار الديمقراطيين. كانت كل المؤشرات تؤكد فوز المحافظين، ولم يكن السيد جونسون في حاجة إلى التفكير بعقلين. أولاً: لأن خصمه العمالي كان جيرمي كوربن ولم يكن الزعيم الحالي كير ستارمر. وثانياً: لأن استبيانات الرأي العام كانت، وقتذاك، كلها تؤكد فوز المحافظين.
وهذا يقودنا بدوره إلى الانتخابات النيابية القادمة، والمتوقع لها أن تجرى في آخر العام القادم 2024. هناك سؤال يبرز ويتعلق بالوضعية التي سيفكر بها رئيس الحكومة البريطانية الحالي السيد ريشي سوناك. أقصد هل سيفكر بعقل واحد: الهزيمة المؤكدة أو النصر المؤزر؟ أم أنه سيكون في وضعية السيد جونسون عام 2016، والحيرة تضطره إلى إعداد خطابين؛ واحد يلقيه إذا حالفه الحظ وانتصر، وآخر في حالة إذا خانه الحظ وانهزم؟
قبل الإجابة عن السؤال يهمنا أن نلقي نظرة على الساحة السياسية البريطانية، ونتقصى أحوال حزب المحافظين حالياً. والحقيقة أن أحوال الحزب لا تسر أنصاره. ذلك أن تداعيات فترة حكم السيدة ليز تراس القصيرة والسلبية، ما زالت لم تنحسر كلية، وأن الانقسام الذي شهده الحزب بتولي أربعة رؤساء حكومة في فترة زمنية قصيرة زعزع ثقة الناخبين به. استبيانات الرأي العام الأسبوعية تؤكد أن المحافظين لم يتمكنوا بعد من تجسير الهوّة التي تفصل بينهم وبين حزب العمال، وهي قرابة 20 نقطة حالياً، ووصلت في فترة سابقة إلى 35 نقطة. ومن جهة أخرى، تواجه حكومة السيد سوناك موجة كبيرة من الإضرابات لم تشهدها بريطانيا منذ عقود، وطالت قطاعات خدمية عديدة وحيوية. وما زال غلاء أسعار المحروقات والسلع الغذائية والتضخم عالياً. وهي جميعاً مؤشرات لا تعين حزب المحافظين على تبنّي نظرة تتسم بالتفاؤل. وأكثر ما يتسرب في وسائل الإعلام من تقارير من داخل الحزب ترجح كفة الهزيمة على النصر. فقادة الحزب ونوابه البرلمانيون وكوادره يرون احتمال الفوز انتخابياً لن يتم إلا بتحقق ما يشبه معجزة. والذين منهم يعتقدون بذلك، يستشهدون بما حدث في انتخابات عام 1992. في تلك الانتخابات كان العماليون بقيادة نيل كينيك يتقدمون في استبيانات الرأي العام عن المحافظين. لكن الفرق في النقاط كان أقل مما هو عليه الآن. وكانت المؤشرات تؤكد خروجهم من الحكم. إلا أن ما يشبه المعجزة حدث آنذاك، حين نجح رئيس الحكومة السيد جون ميجر في قلب الموازين والتوقعات، وخرج فائزاً وضمن بقاءه في السلطة خمس سنوات أخرى. ومما لا شك فيه أن السيد ميجر، وقتذاك، كان يفكر بعقلين. ومن المحتمل أنه أعدّ خطابين، كما فعل السيد جونسون في عام 2016.
رئيس الحكومة الحالي السيد ريشي سوناك لا تغيب عنه هذه التفاصيل. ويعرف جيداً أن نجاحه من عدمه في الانتخابات القادمة - في حالة بقائه في الحكم- يتوقف على ما ينجزه خلال العامين القادمين. ومشكلته أنه لا يستطيع تركيز النظر على الطريق أمامه لكي يتمكن من الوصول إلى هدفه، لأنه يكثر من الالتفات إلى الخلف خوفاً من طعنة مفاجئة في الظهر. والسبب أن عديدين من النواب لعدم ثقتهم بقدرته على الفوز بالانتخابات القادمة، وخشية على فقدان مقاعدهم البرلمانية، صاروا يفكرون بصوت عالٍ في احتمال تحركهم ضده وإزاحته من الطريق، وإحلال السيد بوريس جونسون محله، لأنه رأسمال انتخابي كبير، بسجل انتخابي لم يعرف فشلاً. الفكرة لم تعد سراً وتتداول في وسائل الإعلام، الأمر الذي يضع السيد سوناك في وضع لا يحسد عليه. فهو، من جهة، لا يمكنه وضع نهاية لخطة التآمر ضده. ومن جهة أخرى، لا يمكنه أن يمنح المتآمرين ضده الثقة بقدرته على قيادتهم في الانتخابات والفوز. ورغم ما يبذله من جهد في الخروج بالحزب وبالبلاد من النفق المظلم، إلا أن الناخبين في العام 2024 لن ينسوا ما فعله السيد جونسون والسيدة تراس من أخطاء، وسوف يضطرونه إلى تحمّل المسؤولية، ودفع الثمن.