بقلم:جمعة بوكليب
مؤخراً، شهدت ليبيا موجة غضب شعبي ضد توطين المهاجرين الأفارقة في البلاد. وتسبّب ذلك في ارتفاع درجة حدة الغضب ضد المهاجرين بشكل خطير. وما حدث باختصار، هو أنه خلال الأسبوعَيْن الماضيين، ظهر في وسائل الإعلام خبر حول لقاء في طرابلس، جمع وزير الحكم المحلي في حكومة طرابلس بمسؤولة في منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة. وزُعم أن الاجتماع يتعلّق بتوطين المهاجرين الأفارقة في ليبيا. حكومة طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة أصدرت بياناً تنفي فيه بشدة الأمر. إلا أن الخبر سرعان ما انتشر، وكان الشرارة التي أضرمت نيران غضب شعبي خطير هدّد حياة المهاجرين.
يوجد في المدن الليبية مهاجرون أفارقة بأعداد كبيرة ولافتة. وما نعرفه أن أوروبا وليست ليبيا هي المقصد والهدف لهم. أي أنهم يعدّون ليبيا ممراً ومقراً مؤقتاً وليس مقراً ومستقراً دائماً، إلى حين إتاحة الفرصة لهم، ومن ثمّ يتمكنون من ركوب البحر، والوصول إلى واحدة من البلدان الأوروبية.
فترات بقائهم في ليبيا في السابق لم تكن طويلة. لكن تشديد القبضة الأمنية على شبكات التهريب، بالتنسيق والتعاون بين السلطات الليبية والاتحاد الأوروبي، أدى إلى تمديد فترات الانتظار؛ هذا من جهة.
من جهة أخرى، يعمل المهاجرون الأفارقة في المدن الليبية بقطاعات اقتصادية متدنية، يأنف منها الليبيون. فهم من يتولون العمل في تنظيف الشوارع وجمع القمامة، ويعملون في الأفران، وفي قطاع البناء والمزارع، وفي ورشات النجارة والسيارات وغيرها. وهم بذلك يقدمون خدمات كثيرة وجليلة لقاء أجور زهيدة. وبالطبع، نظراً إلى زيادة أعدادهم في السنوات الأخيرة، وإقاماتهم في تجمعات لا تبتعد كثيراً عن الأحياء السكانية، تسبّب ذلك في انتشار ظواهر ذات صفة إجرامية. والمسؤول عن ذلك ليس المهاجرين وإنما غياب الدولة ومؤسساتها، وضعف الأجهزة الأمنية أمام تغوّل الجماعات المسلحة.
توطين المهاجرين الأفارقة ليس جديداً في ليبيا. فقد دأبت الحكومات السابقة منذ بدايات مرحلة ما بعد الاستقلال على تبني سياسة التوطين. أي إن النظامَيْن السابقَيْن الملكي والعسكري طبقاً تلك السياسة لأغراض وأهداف مختلفة.
الاختلاف هذه المرّة هو أن التوطين، لو حدث، سيتم في غياب كامل للدولة ولمؤسسات حكومية متخصصة وقادرة على تنظيم العملية بشكل يحفظ حقوق المهاجرين وييسر أمورهم، من خلال تسجيلهم رسمياً وتوزيعهم في مناطق مختلفة بعيداً عن التجمعات السكانية، وفي الوقت ذاته لا يخلُّ بالأمن العام، أو يدعو إلى انزعاج السكان.
وما لا يعلمه كثيرون أن موجات العنف الشعبي ضد المهاجرين الأفارقة في ليبيا قبل انتفاضة فبراير (شباط) 2011، تحظى بسوابق خطيرة، موثقة رسمياً في سجلات الأجهزة الأمنية والقضائية. وبالتالي، فإن موجة الغضب الحالية تأتي بمثابة تحذير وإنذار لما قد يحدث من عنف وانتهاكات خطيرة، وما قد يُرتكب من كوارث ضد مهاجرين فقراء، دفعت بهم الظروف السيئة إلى ترك بلدانهم، على أمل ضمان عيش كريم.
وما لا يعرفه كثيرون أيضاً أن سوق العمالة في ليبيا حالياً أفريقية في أغلبها. ولولا وجودهم لتحولت شوارع المدن الليبية إلى مراتع للقمامة ومصادر للعدوى بمختلف الأوبئة والأمراض، ولارتفع سعر الخبز عشرة أضعاف، لعدم وجود من يدير الأفران والمخابز. ناهيك بمن يعمرون المزارع، ويشيّدون البيوت والعمارات.
الغريب أن الذاكرة الجمعية الليبية انتقائية، بمعنى أنها تتناسى ما كان يحدث خلال فترة حكم القذافي، حين اضطر الآلاف منهم إلى ترك بلادهم هرباً من أهوال ما كان يحدث في البلاد. فما الذي حدث، ومن أي الطرق نفذ إلى ذاكرتهم النسيان؟
وفي تفسيري لما حدث ويحدث ضد المهاجرين عموماً، ليس في ليبيا فقط، بل في مختلف دول العالم، هو أن ذاكرات الشعوب تفقد بوصلتها، وتبدأ تعمل بآليات غريبة. بمعنى أن الذاكرات في أوقات وأزمنة تتصف باختلال القيم والاضطراب الاجتماعي وافتقاد الأمان، تكون فريسة سهلة للبرمجة من الأجهزة والمؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام، بما يشبه عملية غسل دماغ. ويؤدي ذلك إلى أن تتحول الذاكرة الجمعية، عن سبق إصرار وترصد، إلى ذاكرة انتقائية، تتعامل مع التاريخ بملقط صغير في اليد. ويفضي ذلك بالضرورة إلى تحول غالبية أفراد الشعب إلى أدوات ووسائل مفيدة في أيدي حكومات، بهدف تحقيق أغراض وأهداف أخرى.