بقلم : جمعة بوكليب
قبل حلول الذكرى الرابعة عشرة للسابع عشر من فبراير (شباط) بأيام قليلة، شوهدت سيارات جهاز الردع في العديد من شوارع طرابلس، بعد انقطاع طويل. حدث ذلك، بعد أن نقلت وسائل الإعلام المحلية خبراً باعثاً على القلق يتعلق بمحاولة اغتيال وزير في حكومة طرابلس، بإطلاق النار على سيارته في وضح النهار، وإصابته بجروح. كما تابعت وسائل الإعلام نشر آخر ما أصدره مكتب النائب العام من أوامر تتعلق بتوقيف واعتقال لمديرين وموظفين كبار في شركات نفطية، وفي إدارات مصارف، نتيجة أعمال فساد وسرقة لأموال عامة تقدر قيمتها بالملايين. ويواصل الليبيون في «مرابيعهم» أحاديثهم عن آخر ما وصل إلى أسماعهم من صفقات مشبوهة. ولعل آخر المستجدات الجديرة بالذكر حقاً، أن المصارف الليبية تنفست أخيراً الصُّعَداء، بعد أن قام مصرف ليبيا المركزي مؤخراً، بالعطف عليها من خلال ضخّها بجرعة إنعاش من سيولة نقدية، ظلت محرومة منها منذ شهر فبراير من العام الماضي!
ما حدث لانتفاضة الشعب الليبي في فبراير 2011 ليس جديداً. والذين منّا قرأوا سِير الثورات الشعبية في مختلف أنحاء العالم وفي مختلف الحقب الزمنية، ربما يعرفون، أكثر من غيرهم، ما حلَّ بأغلبها من انتكاسات. وما لحق بها من كوارث. والحقيقة التي لا تقبل جدالاً هي أن أغلب تلك الثورات تعرضت للسطو والسرقة، من قبل جماعات، حزبية أو مسلحة، أو الاثنين معاً، لم يكن لها أي دور في إضرام نيرانها. ومن ثمّ، لا أحد يلوم شباباً ليبيين حالمين واعدين على ما أصابهم من إحباط، وهم يرون ويلمسون ويعايشون، يوماً بآخر، ما يحدث في أنحاء بلادهم من فساد ورِشاً وتطاحن وحروب، وأدركوا فداحة الهاوية التي تسير نحوها، وليس بمقدورهم فعل شيء.
في الأعوام الأولى، التي أعقبت انتفاضة فبراير 2011 في ليبيا، كانت الاحتفالات بذكراها سنوياً شعبية مائة في المائة. وفي طرابلس على سبيل التذكير، يتحول ميدان الشهداء مساءً إلى مهرجان شعبي تختلط فيه أصوات آلاف الليبيين، من الجنسين، ومن جميع الأعمار، وهم يرددون الأناشيد، فرحين بالنصر على الاستبداد.
خلال زياراتي المتكررة لطرابلس في تلك الأعوام، كنت أشاهد شباباً من مختلف مناطقها، في الأيام التي تسبق يوم الاحتفال بذكرى الانتفاضة، يتحركون على شكل فرق بمهام محددة. فريق لتعليق الأعلام في عقود طويلة بين أعمدة الإضاءة، وآخر لطلاء الجدران، وثالث لتنظيف الشوارع... إلخ. ميزة تلك التحركات الشبابية الجماعية أنّها كانت تطوعية. وما ينفق خلال تلك الحملات من أموال كان حصيلة تبرعات من سكان الأحياء. ولا مكان لتدخل الحكومة أو مؤسساتها، ولا درهمَ يُنفَقُ من خزائنها.
تذكرت ذلك هذه الأيام مؤخراً، خلال تطوافي متجولاً بشوارع مدينتي طرابلس في مختلف مناطقها، وقبل أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الرابعة عشرة لـ17 فبراير. وفي الواقع، كان في المركز من جولاتي البحث عن أولئك الشباب المتطوعين، وهم يزينون أحياءهم، فرحين بتخليص البلاد من الاستبداد. لكنني، لم أر منهم أحداً. وأدركت أن شيئاً غير عادي قد انتصب حائلاً بين الليبيين وبهجة الاحتفالات بالمناسبة التي خلصتهم من قيود وأصفاد الاستبداد.
هذا العام، اكتسى الطابع الرسمي الاحتفال بالذكرى الرابعة عشرة. الأعلام عُلقت في الشوارع، والأضواء أضيئت، لكن بأيدي عمال وفنيين مؤجرين من قبل الحكومة أو شركات متخصصة. إلا أن البهجة الشعبية لم تكن حاضرة. وهذا يعزز ويؤكد مجدداً حقيقة تترسخ، يوماً تلو آخر، في الأذهان. وهي أن الانتفاضة التي جاءت لتحرر البلاد والعباد من الاستبداد انقلبت رأساً على عقب، وصارت أمراً آخر، لم يكن يوماً في الحسبان. وأن الحلم بليبيا ديمقراطية وحرّة تحوّل إلى كابوس.