بقلم : جمعة بوكليب
هناك من يرى أن القادة لا يولدون جاهزين للقيادة في الخُطب والملمات، بل تصنعهم الأحداث. والتاريخ الإنساني، في مراحله وحقبه المختلفة، من الأرجح دعمه لكفة أصحاب هذا الرأي. ذلك أن الأحداث بتقلباتها، أغلب الأوقات، مثل رياح عاتية هوجاء، تأتي من دون إنذار مسبق، وتقلب الدنيا رأساً على عقب. في أوقات كتلك، يظهر القادة ويبرزون.
خلال الأسبوعين الأخيرين، هبّت رياحٌ هوجاء على أوروبا. واتضح منها لأغلب المراقبين والمحللين السياسيين أن العواصم الأوروبية غير قادرة على مواجهتها نتيجة فقدان القيادة. وأن العاصفة القادمة من واشنطن ضربت أوروبا على أكثر من صعيد. وكشفت عن عدم قدرتها على امتصاص الصدمات المتتالية والرد المناسب. آخر الصدمات ما حدث مؤخراً في المؤتمر الصحافي بالمكتب البيضاوي، في واشنطن، الذي جمع بين الرئيس الأميركي ونائبه من جهة، والرئيس الأوكراني من جهة أخرى، وما حدث خلاله من هرج ومرج. وما تسبب فيه من فتح باب خلاف بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين طال قضايا عديدة، وأثار أسئلة كثيرة، حول ما كان لسنوات طويلة يُعتقد أنّه عقيدة أمنية غير قابلة للشك.
في المركز منها السؤال حول احتمال استمرار وجود حلف الناتو أو حلّه واختفائه من الخارطة. وفي ذلك الخضم الأوروبي غير المسبوق، برز رئيس الحكومة البريطانية السير كير ستارمر كقائد أوروبي، من خارج دول الاتحاد الأوروبي، على نحو إيجابي غير متوقع، على خشبة المسرح الدولي. وكشف عن قدرات ومواهب قيادية لم تُعرف عنه، منذ وصوله إلى السلطة.
بمهارة دبلوماسية هادئة وفائقة تولى السير ستارمر قيادة العربة الأوروبية بثقة، واستطاع بسرعة أن يجمع حوله القادة الأوروبيين. الأمر الذي أثار دهشة وإعجاب أغلب المعلقين السياسيين الأوروبيين. وقبل ذلك، نجح بشكل لافت في كسب ثقة الرئيس الأميركي ترمب. وبدا وكأنه الربّان الذي هيأته الأحداث لإنقاذ المركب الأوروبي، والخروج به سالماً من جنون عاصفة، سببها إعصار قادم من المحيط الأطلسي، اسمه دونالد ترمب.
أوروبا، منذ انسحاب السيدة أنجيلا ميركل من المسرح السياسي، افتقدت القيادة السياسية الكاريزمية. وفشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ملء الفراغ الناجم عن غيابها. إلا أن ظهور ستارمر المفاجئ على خشبة المسرح الأوروبي والدولي بهذه الحيوية، جعل كثيرين يعقدون المقارنات بينه وبين قادة عرفتهم القارة العجوز في الماضي.
قيادة السير ستارمر برزت أكثر لدى مبادرته بدعوة قادة أوروبا للقاء في لندن على وجه السرعة بعد حادثة المكتب البيضاوي، وبهدف توحيد الصفوف والسعي لوضع خطة أوروبية أمنية موحدة لدعم أوكرانيا في أي مفاوضات سلام قادمة، إلى جانب دعمها بالسلاح لمواصلة التصدي للقوات الروسية. وفي ذات الوقت خلق جبهة سياسية قادرة على خلق ثقل سياسي قادر على كبح سرعة تحركات الرئيس ترمب وتقلباته.
قادة أوروبا قلقون من احتمال أن يتخلى الرئيس ترمب عن أوروبا، ويرفع مظلة الحماية الأميركية عنها، وتقديم أوكرانيا هدية أو قرباناً إلى الرئيس الروسي بوتين مقابل تخلي الأخير عن تحالفه مع الصين. في حين أن رئيس الحكومة البريطانية يجزم أن الرئيس ترمب ما زال مهتماً بمسألة توفير ضمانات أميركية للاتفاق الأوكراني – الروسي. وهو، أي ستارمر، لهذا السبب، عمل على أن يكون جسراً يربط بين أوروبا وواشنطن. السير ستارمر نتيجة العلاقة الطيبة التي استطاع بناءها مؤخراً مع الرئيس ترمب، خلال زيارته إلى واشنطن، والمديح الذي أسبغه عليه الأخير خلال المؤتمر الصحافي عقب اجتماعهما، أتاحا له فرصة لم تتوفر لغيره من القادة الأوروبيين. ومن خلال ذلك، وبدبلوماسية هادئة تتفادى إغضاب الرئيس ترمب، والوقوع في المطبات المنصوبة في الطريق، يمكنه الحديث في موضوعات وقضايا عدة، ومن بينها إقناع الرئيس ترمب بتقبل وجهة النظر الأوروبية بضرورة توفر ضمانات أميركية للسلام الأوكراني، عبر توفير الغطاء الجوي لأي قوات سلام يحتمل الاتفاق على توفرها على الحدود الأوكرانية.
المشكلة في تحقيق ذلك، استناداً إلى معلقين إعلاميين بريطانيين، أن الإدارة الأميركية، وعلى وجه الخصوص، وزيرا الخارجية والدفاع، من المحتمل جداً أنه لا علم لهما بطبيعة خطة السلام الأوكراني الذي يريده الرئيس ترمب. بل إن هناك شكوكاً في وجود خطة سلام أصلاً. إلا أن هذه الشكوك، في رأيي، تبدو متعارضة مع السرعة التي أبداها الرئيس ترمب في التحرك، بغرض تنفيذ وعده بوقف الحرب، والحصول على موافقة الطرفين المتقاتلين على عقد مفاوضات. مما يعني وجود خطة.
من المهم الإشارة إلى أن لندن، بقيادة السير ستارمر، وخارج الاتحاد الأوروبي، تحولت مؤخراً إلى غرفة عمليات أوروبية لمواجهة أي تطورات في الأزمة الأوكرانية – الروسية، لا تأخذ في اعتبارها الموقف الأوروبي من أي اتفاق سلام محتمل. ولهذا السبب كانت لندن أكثر من باريس وبرلين في مرمى سهام الاتهامات الروسية، حيث اتهمت علناً بكونها مناوئة للسلام، وتسعى إلى وضع المطبات والفخاخ في طريقه.