بقلم - جمعة بوكليب
وكأن الحرب الدائرة في أوكرانيا، منذ أكثر من خمسة أشهر، لا تكفي لأنْ تجعلَ القلقَ على مصير السلام في العالم يتفاقم، حتى نفاجأ بأزمة دولية أخرى بين قوتين عظميين: الصين وأميركا. والسبب، زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي السيدة نانسي بيلوسي إلى جزيرة تايوان. السيدة بيلوسي، وفقاً لتقارير إعلامية، تجاهلت نصيحة البيت الأبيض بعدم الزيارة. الرئيس بايدن، حسب التقارير الإعلامية، لم يتحدث مباشرة مع السيدة بيلوسي، بل أرسل بمسؤولين كبار في إدارته لإقناعها بعدم الذهاب. السيدة بيلوسي الديمقراطية رفضت النصيحة الرئاسية، وحظيت بتأييد 26 سيناتوراً جمهورياً. وفي تأييدهم، اعتبروا أن عدم القيام بالزيارة يشجع الصين على التمادي في سياستها الهادفة إلى عزل وابتلاع تايوان. السيدة بيلوسي ومؤيدوها في الكونغرس ليسوا بغافلين عما قد تسببه الزيارة من إشكالات دبلوماسية للرئيس بايدن.
زيارة السيدة بيلوسي لتايوان تعد الأولى منذ 25 عاماً. في عام 1997 قام رئيس المجلس المعني نفسه نيوت جنجريتش من الحزب الجمهوري بزيارة الجزيرة. السياسة الأميركية الرسمية، منذ عام 1979 انتهجت سياسة عُرفت باسم (صين واحدة - (One China التزمت التعامل الرسمي مع بكين على اعتبار أنها الحكومة الشرعية للصين، وهو اعتراف ضمني بأن تايوان جزء من أراضيها. لكنها، في ذات الوقت، احتفظت بعلاقة غير رسمية مع تايوان. اتسمت وضعية تايوان دولياً بوضعية غريبة. فهي ليست دولة مستقلة. وليست عضواً بالأمم المتحدة، ولا تحظى باعتراف دولي. الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع تايوان لا تخلو من تناقض واضح. فهي إن كانت لا تعترف بتايوان دولة مستقلة، فإنها لا تتوقف عن دعمها وتسليحها كدولة مستقلة، وتتعهد حمايتها ضد أي اجتياح صيني! ومن جهة أخرى، من المفيد الإشارة إلى أن بكين تكنّ مشاعر غير ودية إطلاقاً نحو السيدة بيلوسي، لأن الأخيرة في عام 1991 قامت بزيارة إلى بكين مع وفد برلماني، وذهبت إلى زيارة ميدان «تيانامين سكوير» المشهور، وما صاحبها من ترحم على من قتلوا فيه عام 1989، وربما هذا ما يفسر شدة الغضب الصيني على الزيارة.
رد الفعل الصيني كان متوقعاً، حيث سبق للرئيس الصيني أن حذر نظيره الأميركي، في مكالمة هاتفية جرت قبل الزيارة، من مغبة اللعب بالنار. ويبدو أن الرئيس الأميركي تفهم ذلك، لكن فصل السلطات في الدستور الأميركي، يحول بينه وبين التدخل في الكونغرس بغرفتيه.
المناورات العسكرية الصينية الحالية، جواً وبحراً، بالذخيرة الحية، في ستة مواقع حول الجزيرة، ما استلزم وضع القوات التايوانية في حالة تأهب قصوى، ليست الأولى من نوعها.
في عام 1995 قام رئيس تايوان بزيارة رسمية إلى واشنطن، الأمر الذي أثار غضب حكومة بكين، وقامت بمناورات عسكرية قوية أطلقت خلالها صواريخ في البحر قرب الجزيرة. الخبراء العسكريون الغربيون يقولون إن المناورات الحالية أشد وأقوى.
واستناداً إلى مصادر تاريخية، فإن تايوان جزيرة صينية تقع في المحيط الهادي، في شرق آسيا، احتلها اليابانيون عام 1896 خلال الحرب التي عرفت باسم الحرب اليابانية - الصينية، وظلت جزءاً من إمبراطورية اليابان. وخلال الحرب العالمية الثانية استخدمها اليابانيون كقاعدة لعملياتهم العسكرية، إلا أنه في عام 1945 بعد توقف العمليات العسكرية في الحرب الكونية الثانية، وضعت قوات جمهورية الصين الوطنية المعروفة باسم (الكومينتانغ) تحت قيادة الجنرال شن كاي شيك، يدها على الجزيرة، من دون إحداث تغيير في صفتها السيادية. لكن الجنرال في عام 1949 اضطر للجوء إليها بقواته بعد هزيمته وطرده من الأراضي الصينية من قبل قوات جيش التحرير الشعبي بقيادة ماو تسي تونغ. الجنرال كاي شيك بقي في الجزيرة، وحكمها بالحديد والنار، تحت راية حزب واحد: الحزب الوطني الصيني. ولم تعرف تايوان الحكم الديمقراطي إلا خلال حقبة الثمانينات من القرن الماضي. وأجريت بها أول انتخابات رئاسية عام 1996. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولت الجزيرة إلى قلعة صناعية ضخمة، وشهدت نمواً اقتصادياً غير مسبوق، أطلق عليه اسم «المعجزة التايوانية».
في الدبلوماسية الدولية، يوضح معلقون غربيون، أنه تشكلت قناعة مفادها أنه من المهم أحياناً الإبقاء على وضعية الحالة الراهنة، في منطقة ما حفاظاً على السلام، حتى إن كان ذلك يعني غض النظر عما يحدث أحياناً من تجاوزات. الموقف من تايوان قد يكون أفضل مثال لتطبيق هذه القاعدة، إلا أن زيارة السيدة بيلوسي، كما لاحظنا من خلال رد الفعل الصيني، أخلت بالتوازن، وسببت صداعاً لإدارة الرئيس بايدن، في وقت تلقي فيه أميركا بثقلها السياسي والعسكري وراء الحكومة الأوكرانية في حربها ضد الاجتياح الروسي. أغلب آراء الخبراء العسكريين في الغرب، المنشورة في وسائل الإعلام، تشير إلى عدم احتمال قيام الصين باجتياح الجزيرة، لعدم توفر الاستعداد الكافي لقواتها المسلحة. لكن تايوان حالياً واقعة فعلياً تحت تهديد حصار عسكري صيني. وهناك احتمال أن الأمور قد تخرج عن نطاق السيطرة.