بقلم : جمعة بوكليب
مع قرب نهاية العام وحلول آخر، بدأت الساحة الليبية تلتهب مجدداً. في مدينة الزاوية على بُعد أقل من 40 كيلومتراً من طرابلس، اندلعت في الأسبوع الماضي، فجأة، معارك ضارية بين الجماعات المسلحة، تسببت في حرق خزانات النفط في المصفاة، وإعلان المؤسسة الوطنية العامة للنفط حالة «القوة القاهرة». الأسباب وراء اندلاع القتال في المدينة ليست جديدة. اللافت للاهتمام أن حكومة طرابلس لم تتدخل لإطفاء النيران وحماية المواطنين حتى بإصدار بيان هزيل يدين المتحاربين، ويدعوهم لوقف الاقتتال. ومع ذلك يظل الأمر عادياً جداً في مدينة يتصارع فيها لصوص تهريب النفط والبشر، على الغنائم والنفوذ.
الأمر اللافت للاهتمام حقاً هو المساعي الحثيثة التي تقوم بها المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني خوري؛ بهدف الخروج من عنق الزجاجة، والبدء في إجراء انتخابات نيابية ورئاسية. ولتلك الغاية، قامت في الآونة الأخيرة بعقد لقاءات عدة، مع مَن وصفتهم بـ«شخصيات وقيادات». وفي يوم الأحد الماضي، عرضت المبادرة على الشعب الليبي، قبل بدء عرضها في اليوم التالي على مجلس الأمن الدولي.
الملاحظة الأولى ترى أن ما خلصت إليه مبادرة خوري لا يختلف شكلاً ومضموناً عن عشرات المبادرات السابقة. وبالتالي، فهي لا تحمل جديداً، كونها تجاهلت حقائق الواقع، على أرض تتخندق فيها مصالح عدة، داخلية وخارجية. وأن أصحاب المصالح الخارجية، هم من بين أعضاء مجلس الأمن الدولي، الذين تسعى خوري لعرض ما وصلت إليه الحال الليبية أمامهم. وأن أي حل للأزمة يتوقف أولاً وأخيراً على تفاهمهم واتفاقهم، والتأكيد على رغبتهم في وضع نهاية لتنافسهم على النفوذ.
الملاحظة الثانية ترى أنه من الممكن الاستشهاد بما حدث في عملية المصالحة في إقليم آيرلندا الشمالية، التي أدت في عام 1998 إلى عقد اتفاق سلام دائم في الإقليم. ولعل أهم ما يميز تلك المصالحة، هو أن الحكومة البريطانية، تجاهلت مبدأ عدم التفاوض مع مَن تصفهم بـ«الإرهابيين». حكومة جون ميجور أخذت بزمام المبادرة، وأتمتها حكومة توني بلير. وأن إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون كانت تدعمها. وأساسها قائم على مبدأ «العصا والجزرة». الجزرة يمثلها سلام دائم قائم على تأسيس واقع جديد، تتساوى فيه الطائفتان في الحقوق والواجبات. والعصا كانت معروفة. المفاوضات استمرت لفترة قصيرة لكنها كانت مكثفة، وشملت جميع الأطراف في وقت واحد. كان المفاوضون البريطانيون يلتقون بالطرف الكاثوليكي، وبعده بالطرف البروتستانتي على انفصال، وفي المكان ذاته. تحقيق النجاح كان وراءه حرص الحكومة البريطانية على الضغط على كل طرف لتقديم تنازلات. ومن خلال ذلك تم تضييق مناطق الخلاف، وتوسيع مناطق الاتفاق. وخرج المؤتمرون باتفاقية سلام تقوم على تشكيل حكومة مشتركة للمرة الأولى في تاريخ الإقليم.
الملاحظة الثالثة ترى أن المبادرات التي تأتي من طرف مبعوثي الأمم المتحدة ليست فيها عصا ولا جزرة. فالأمم المتحدة دون أنياب ولا أظافر. وأن أغلب المبادرات لا تتم وفق خطة موضوعة بهدف الضغط على الأطراف كلها في وقت واحد؛ لتقديم تنازلات، ولتضييق مناطق الاختلافات. كما أن الأطراف المسببة للأزمة محلياً تعرف أن رفضها لن يكلفها شيئاً، بل إن موافقتها ستؤدي إلى خسارتها. الربح والخسارة ليسا كفريق أو طرف، بل كأفراد وعائلات. ذلك أن الأساس في الحسابات يقوم على مبدأ الربح والخسارة الشخصية، وليس على حسابات ربح أو خسارة شعب، ودولة، وأمة.
الملاحظة الرابعة تؤكد أن أي مبادرة تتجاهل مَن بيدهم السلاح لا يمكن لها النجاح. وأن مَن بيدهم السلاح يستندون إلى قوى خارجية معروفة. وتجاهل هذه الحقيقة هو ما جعل كل المبعوثين الأمميين يدورون في حلقة مفرغة. وبالطبع، هم يعرفون ذلك، والمبعوث السابق، اللبناني غسان سلامة، قال ذلك صراحةً في وسائل الإعلام.
الملاحظة الخامسة أن سياسة فرض الأمر الواقع السائدة من سنوات، تناسب كل الأطراف المتنازعة على السلطة والثروة. وأن انقسام البلاد بين حكومتين، واحتمال انقسامها إلى بلدين، أمر لا يستدعي انزعاجهم، ما داموا يحافظون على مكتسباتهم الشخصية.
الملاحظة الأخيرة ترى أنه من المهم لنجاح أي مبادرة أن تكون مدعومة بقوى دولية قادرة على الضغط على الأطراف كلها، وإجبارهم على الجلوس على مناضد التفاوض، وانتزاع تنازلات منهم؛ بهدف الوصول إلى اتفاق يراعي مصالح جميع الأطراف. وما لم يتحقق ذلك، ستظل الأزمة الليبية تدور في المربع ذاته، من دون أن تتقدم خطوة خارجه، وسيظل التهديد بالحرب والاقتتال قائماً.