اللعبُ بالنارِ، رغم خطورته، ليس بالأمر الجديد في عالم السياسة خصوصاً. إذ تأتي لحظات وأوقات وأزمات، يجدُ السياسي نفسه مُطوّقاً من كل الجهات، وليس أمامه سوى الاستسلام، أو المغامرة بفكّ الطوق من حوله، واستعادة السيطرة على الأمور.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجد نفسه مؤخراً مطوّقاً بزحف من اليمين المتشدد، ممثلاً في حزب التجمع الوطني بقيادة السيدة ماري لوبن. هزيمتان انتخابيتان متتاليتان ألحقتهما به خلال ثمانية عشر شهراً، وعكّرت صفو ولايته الرئاسية الثانية.
اللعبُ بالنارِ قد يؤدي بالرئيس الفرنسي إلى حرق نفسه، أو حرق بلده فرنسا، حسب ما علّقت صحيفة «لوموند». ولعلَّ هذا هو التفسير الوحيد لقراره المفاجئ بإجراء انتخابات نيابية خاطفة على مرحلتين في آخر هذا الشهر، ويوم السابع من شهر يوليو (تموز) المقبل. فهل ينجح في مخاطرته، ويستعيد أغلبيته البرلمانية، التي فقدها في انتخابات العام 2022، ويبعد خطر السيدة لوبن وما تمثله، أم أنّه، بقراره الأخير، يمنحها فرصة العمر، ويتيح لها ولحزبها الإمساك بمقود الحكومة؟
اللافتُ أن الإعلان عن حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) جاء مباشرة عقب إعلان نتائج الانتخابات الأوروبية، مساء الأحد الماضي. وهذا يعني أن الرئيس كان متوقّعاً الهزيمة، وأعدّ لها العدة. والمصادر الإعلامية تؤكد أن القرار طُبخ على مهل طيلة أشهر، وفي دائرة صغيرة جداً، ضمت وزيرين وثلاثة مستشارين. وبعض التقارير ذكرت الرئيس السابق نيكولاس ساركوزي بالاسم.
في عام 2017، وبعد نحو عام من وجودها في 10 داونينغ ستريت، دعت رئيسة الحكومة البريطانية السابقة ثيريزا ماي، إلى إجراء مماثل، وكانت آنذاك في وضع سياسي أفضل، وبأكثرية برلمانية مريحة نسبياً. وكانت نتائج استبيانات الرأي العام تؤكد تقدم حزب المحافظين بنحو 17 نقطة عن غريمه حزب العمال المعارض. السيدة ماي، نظراً لأنها وصلت إلى منصب رئاسة الحكومة والحزب من دون انتخابات عامة، رأت أن الفرصة مواتية لإثبات جدارتها بالمنصب شعبياً عبر صناديق الانتخاب، وتأكيد مصداقيتها كزعيم للحزب وكرئيس للحكومة. وفاجأت الجميع بقرار عقد انتخابات نيابية خاطفة. وحين ظهرت النتائج كانت كارثية. ورغم فوزها بالانتخابات تلك، فإن أغلبيتها البرلمانية تضاءلت إلى حد كبير.
ومن الواضح أن الرئيس ماكرون، كما يقول معلقون، وجد نفسه مكتوف اليدين برلمانياً بعد فقدان حزبه للأغلبية في البرلمان في انتخابات عام 2022، وأن الخطوة الأخيرة مؤشر على أنه ضاق بالحصار، وعدم قدرته على تنفيذ برنامجه الإصلاحي بسبب شدة المعارضة. التقارير الإعلامية تؤكد أن المعارضة كانت تستعد لإسقاط الحكومة في فصل الخريف المقبل، بسبب إصرار الحكومة على تمرير ميزانية تستهدف تخفيض الإنفاق بقيمة 25 مليار يورو لسد العجز. وأن الرئيس ماكرون قام بضربة استباقية حتى لا يفقد خيوط المبادرة، ويصبح أسيراً في أيدي خصومه، وخاصة ماري لوبن.
وقصد بإعلان القرار مفاجأة خصومه وإرباكهم. لكن هل يترجم ذلك انتخابياً، ويؤدي بالرئيس ماكرون إلى استعادة أغلبية حزبه في البرلمان، أم أنّه قد يقود إلى وصول حزب التجمع الوطني إلى قيادة الحكومة الفرنسية؟ لا أحد بمستطاعه حالياً المراهنة على الاحتمال الأول. ويبقى مهماً الإشارة إلى أن القرار قد أحدث إرباكاً في حزب المحافظين الجمهوري، بإعلان رئيسه عن رغبته في الدخول في تحالف مع حزب السيدة ماري لوبن. وأفضى ذلك إلى شق صفوف الحزب بين مؤيدين ومعارضين. والنتيجة النهائية أن المعارضين في قيادة الحزب ربحوا الجولة، وقاموا بتنحية الرئيس. لكن الرئيس اعتبر القرار غير قانوني، ورفض التنحي.
ثيريزا ماي كانت في مركز قوة، ورغم ذلك خسرت أغلبيتها البرلمانية في انتخابات خاطفة. فماذا سيحدث لحزب الرئيس ماكرون في الانتخابات الخاطفة، وقد جاء القرار من مركز ضعف، ومباشرة بعد هزيمة انتخابية مُذلّة؟
الرئيس ماكرون في خطابه ذكَّر الفرنسيين برعب الفاشية في أوروبا، ووصف نجاح اليمينيين في الانتخابات بالحمّى التي أصابت الحياة السياسية، كما ذكرهم بصرخة الجنرال شارل ديغول في شهر مايو (أيار) عام 1968 بالقضاء على الفوضى، ويعني بذلك وضع نهاية لثورة الطلاب في الشوارع. وكأنه يريد إعادة ما فعله الجنرال ديغول.
والحقيقة التي ربما نسيها الرئيس ماكرون هي أن 56 عاماً قد مرت على تلك الأحداث. وأن فرنسا الجنرال ديغول عام 1968 ليست فرنسا الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2024. الجنرال ديغول شفعت له مقاومته للاحتلال النازي، واسترداد حرية فرنسا ومكانتها دولياً. أضف إلى ذلك، أن الناخبين الفرنسيين لا يجهلون حزب التجمع الوطني وتاريخه وما يمثل، لكنهم ضاق بهم الحال، ولم يجدوا ملجأ آمناً من الأزمات التي تطوقهم، لا في حزب الرئيس ماكرون ولا في غيره من أحزاب يمين أو يسار الوسط.
فهل سنرى الرئيس ماكرون، في نهاية يوم 7 يوليو المقبل، يعضُّ الأصابع ندماً، أم أننا سنرى التاريخ يضع يده على كتفه مُهنئاً؟