بقلم - حنا صالح
مع دخول لبنان الشهر السادس على الشغور الرئاسي، والشهر الـ11 على الفراغ في السلطة الإجرائية، (حكومة «حزب الله» التي يرأسها ميقاتي استقالت دستورياً فور تسلم البرلمان المنتخب في 15 مايو- أيار الماضي صلاحياته)... يبدو أن الهدف البعيد لإطباق هذه الحلقة التي تصاحبت مع تفكك المؤسسات العامة، أن ترسخ لدى الناس شيئاً من القناعة بأن الرئاسة والحكومة والمؤسسات لا حاجة لها، وأنه ممكن للمواطنين التكيّف دون الحاجة لرئيس للجمهورية، وتحول رئاسة الحكومة لأداء دور «باشكاتب» لدى الثنائي المذهبي المتسلط!
ويبلغ الابتزاز والاستقواء ذروته بالإصرار على تكريس اللادور لرئاسة الجمهورية. بالضغط لملئها بشخصية هامشية، سقفها ممارسة بروتوكولية، لتبقى الرئاسة بين يدي «حزب الله» فيكمل مسار الحقبة العونية لاكتمال الانهيار. ولا تخرج الطروحات الرئاسية لـ«معارضة» النظام الغنائمي عن هذا المنحى، مع التقاء الطبقة السياسية على التفريط بالسيادة والثروة (التنازل عن حقل «كاريش» النفطي، وعن «الخط 29»، وجعل رأس الناقورة منطقة متنازعاً عليها، ومد نفوذ تل أبيب إلى البلوك رقم 9)، كما السعي إلى التفريط بحقوق للبنانيين في أصول الدولة، والعمل لتشريع وضع اليد عليها لإعادة تمويل الناهبين (كارتل سياسي مصرفي ميليشياوي) الذين سطوا على الودائع وأفقروا البلد! يتم كل ذلك في زمن مرعب للشعب اللبناني، يتطلب في الرئاسة رجل دولة رؤيوياً، يكون مرجعية وبوصلة لمسار النهوض واستعادة الدور في آنٍ معاً.
اصطدام غطرسة قوة الممانعين، مع انعدام الرؤية الحقيقية للواقع وسبل الخروج منه، أدخل البلد في الاستعصاء. الناظر إلى المشهد العام يجد أن «صنّاع» السياسة، المعروفة نشأتهم وخلفياتهم، أعادوا لبنان إلى زمن القناصل ما بعد الحرب الأهلية في العام 1860! كل المواقف السياسية، وما يتصدر الإعلام، يُظهر الإدمان على الرضوخ للخارج والتأهب لمعرفة ما في جعبة القناصل من توجيهات، فكل الطبقة السياسية التي تسلطت ما بعد العام 1990 تكيّفت مع كل التدخلات، والأنكى أنها تطالب بها علناً!
طبعاً ليس لبنان جزيرة معزولة، فعلى الدوام كانت هناك تدخلات في الاستحقاق الرئاسي، لكن ما يعيشه هذه الأيام مذهل. الكل؛ «موالاة» النظام كما «معارضته»، ينتظرون بالصف جولات السفراء وماذا يحملون. ويتم تعميم فبركات للإلهاء، منها أن «الملف اللبناني» بند متقدم على طاولات الكبار (...)، ويشغلون المواطنين بـ«لقاء خماسي» و«مشاورات ثنائية»، ويروّج الفريق الممانع لأن النقاش في باريس لم يقفل بتاتاً ترشيح فرنجية (...) من دون الإيهام «أن التطورات الإقليمية قد تبدلت لمصلحته»! وينسبون إلى القاهرة «مبادرة مصرية» تطرح تشكيل «مجموعة 5+1 بضم طهران إلى اللقاء الخماسي»!
وبموازاة البرلمان الممنوع من القيام بدوره الرئيسي، وهو انتخاب رئيس للجمهورية، يتم تغييب مسؤوليته عن كبح الانهيار، واتساع الإذلال واللاعدالة. وتتسع الاستدعاءات الأمنية ومنحى كم الأفواه تزامناً مع انحسار الدور الخدماتي الرسمي. ويتفشى الانحطاط السياسي مع رهط من الأثرياء الجدد، والمدعى عليهم الفارين من وجه العدالة، إلى متملقين صنّعتهم الأجهزة السورية و«حزب الله»، فتتالى التعمية بالترويج إلى لازمة «الاستقلالية» و«السيادة» و«الإصلاح»، معطوفةً على استعداد الطامحين إلى الرئاسة لتقديم «الضمانات» للاسترئاس خصوصاً من جانب أولئك الذين استأنس «حزب الله» بطروحاتهم التي لا يعلم الناس عنها شيئاً!
ما هو متعذَّرٌ القفز فوقه أن رئاسة الجمهورية، ضمن موازين القوى الحالية، ليست أكثر من مسألة جانبية في مسار انهيار طال كل شيء. فضمن معايير الخلل الوطني بموازين القوى، سيكون الرئيس أعجز من إدارة الأزمة، فكيف بالزعم أن وجوده سيعيد تركيب المؤسسات ويفكّ أسرها ويطلق آليات النهوض ويعيد تزخيم مشروع الدولة؟ إنهم يذرّون الرماد في العيون، في تجاهلٍ مقصود ومخادع لحقيقة أنه مع هذه التركيبة التي غطّت اختطاف الدولة، لا شيء يتقدم مصالح أطرافها الضيقة الوضيعة، أو المصالح المرتبطة بمشروع الاستئثار الخارجي. أبعد من ذلك هناك إنكار ومكابرة من جانب كل المنظومة السياسية، مع تميز الطرف «الممانع» بخطاب «انتصارات» متصاعد بينما المواطنون في هبوط مستمر!
لا الشغور ولا الفراغ هما أبرز ما يهدد لبنان الآن، بل وجود أزمة بنيوية هي أخطر ما عرفه في تاريخه. تطال الدستور والكيان والحدود والمصير، معطوفة على دمار يتعمم وإفقار متعمد وخراب اقتصادي ولّد مآسٍ اجتماعية، وكل ذلك مترافق مع انعدام الأخلاق لدى طبقة سياسية مافياوية منتهية الصلاحية.
لقد أشّر المسار السياسي الذي رسمته ثورة «17 تشرين» إلى البوصلة الأكيدة التي يمكن أن تُفضي لاستعادة الدولة وإطلاق إصلاح سياسي واقتصادي حقيقيين، بما يسمح بنهوض المؤسسات ويحصّنها من عقودٍ من السلطة الطائفية الزبائنية، التي ابتكرت البدع في نهب وهدر المال العام والخاص، وجعلت الفساد من عاديات الممارسة السياسية والإدارية بعدما استتبعت القضاء وهمّشت المؤسسات الرقابية ومنعت دوماً المحاسبة... والثابت أن اكتمال هذا المسار يتطلب قيام سلطة مستقلة، حكومة من خارج هذه الطبقة السياسية، تحمل طموحات المواطنين وآمالهم، فتعيد العمل بالدستور، وتبسط السيادة بواسطة القوى الشرعية.
متعذَّرٌ هو الإنقاذ على أيدي منظومة النيترات المتسلطة، والعمل بالشراكة معها يغطي ارتكاباتها، والدليل الممارسات بعد انفجار الأزمة. هدرت حكومة حسان دياب 8 مليارات دولار على دعم موهوم فاتسع الإثراء غير المشروع، وتأمن تمويل للدويلة وميليشيات النظام السوري. ورسمل سلامة، الملاحَق دولياً، البنوك بـ9 مليارات دولار، بعدما كان الكارتل المصرفي السياسي قد هرّب 20 ملياراً إلى الخارج وفق الاقتصادي د.توفيق كسبار. وأهدرت حكومة ميقاتي رقماً مماثلاً، والحصيلة حصار جوع وهجرة شباب وكفاءات!
المهمة الأبرز اليوم، إنهاء الخلل الوطني في موازين القوى، ولن يتأمن ذلك قبل قيام «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، الشبيهة بالمناخ الشعبي لـ«ثورة تشرين»، يوم التقى الناس في الساحات وقد وحّدهم الوجع والأمل. إذّاك يمكن أن يتظهر البديل السياسي، القادر على تثبيت أركان مدنية الدولة التي تضمن العدالة، وهي حق للبنانيين، وتضمن المساواة وتكافؤ الفرص فتُلبى تطلعات الشباب والنساء وكل الذين تمسكوا بأمل التغيير. مرة أخرى، في لبنان قوى حية جدية منعت حتى الآن السقوط النهائي للبلد، وهي مطالَبة بالخروج من المراوحة والذهاب إلى بلورة أدوات كفاحية تمكّن الناس من الدفاع عن وجودهم وحقوقهم... لتكون الرافعة لبلورة «الكتلة التاريخية». مفهوم حجم القلق الناجم عن تأثيرات تاريخٍ من تشويه الثقافة السياسية الحزبية التي حوّلوها إلى ارتزاق. ومفهوم عدم اليقين المسبق لما ستكون عليه ردة فعل أصحاب المصلحة، ومعروف انحسار النخب التي يمكنها أن تنهض بمثل هذا المنحى السياسي المنظم، لكنّ القراءة الواقعية تؤكد أن البدائل الأخرى انتفت، والمنتظر مغادرة المراوحة والحالة الانتظارية.