بقلم- حنا صالح
تعالوا نتخيل الحالة السوريالية التي يعيشها لبنان. هزل على مسرح المصرف المركزي واستثمار في الشغور الرئاسي وتلاعب بالفراغ، ودوماً تجاوز للدستور واعتماد الفتاوى في الحياة السياسية... وراء كل ذلك مشروع اقتلاع وإلحاق وضابط إيقاعٍ واحد. لا شيء يحدث بالصدفة، لا السرقة ولا الارتهان للخارج، ولا تغييب المحاسبة وحجب العدالة كما محاصرة محاولات استعادة الدور والمكانة!
أمام نهب مبرمج للمال العام ولجيوب المواطنين وودائعهم ليصبح أكثر من 80 في المائة منهم تحت خط الفقر، فيمتد العوز وتتسع الفاقة، لا يرف جفن للمنظومة السياسية، فتستمر محاولات النافذين التمديد لرياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان، بالزعم أنه الأقدر على إدارة الفوضى السائدة، والذريعة أن بوسعه ابتكار «أرانب» تمنع حدوث الارتطام المدمر! والمشترك بين هؤلاء من «موالاة» النظام كما «معارضته» إلى قيادات طائفية، استسهال القفز فوق القوانين والإمعان في طعن الدستور، والتعامي عن واقع أن سلامة بات مصنفاً لبنانياً وعالمياً كأبرز الفاسدين الناهبين، مدعى عليه بتبييض الأموال، وبحقه مذكرات توقيف دولية عن القضاء في فرنسا وألمانيا، وحُجزت أصوله المالية والعقارية في أوروبا وكذلك في لبنان.
يرسم المشهد حصيلة مكثفة لأداء طبقة سياسية أسقطت المساءلة واستتبعت القضاء وحصّنت «الإفلات من العقاب»، وغطت اختطاف «حزب الله» للدولة واحتجازه قرارها والتحكم بمصيرها. ورغم أن الارتطام حدث وهو كبير لا يرف لها جفن. فيعود بيان صندوق النقد (29 يونيو/حزيران) إلى التوقف أمام «السجل المخزي» للطبقة السياسية آخر 20 سنة، منذ ما قبل «باريس1 إلى سيدر»؛ إذ منعت الإصلاح وتنكرت لتعهداتها، مقدمة منافعها ومكاسبها الضيقة. ويتهم الصندوق الأحزاب السياسية الكبرى كافة التي تمثلت في لجنة «تقصي الحقائق البرلمانية» بأنها تواطأت ضد الإصلاح وبينها هيكلة المصارف، عندما التقت مواقف «المجلس المركزي لمصرف لبنان، ولجنة المال والموازنة، وجمعية المصارف على تحميل المجتمع عبء الخسائر في القطاع المالي»! في هذا التوقيت تتوسع أفقياً وتزدهر مؤسسة «القرض الحسن»!
ورغم الوضوح الدستوري بحصر القرار بيد مجلس الوزراء مجتمعاً. تتشارك الطبقة السياسية بتفاوت في القفز فوق واقع أن الحكومة مستقيلة دستورياً نتيجة الانتخابات فيمنع الصراع الشكلي على المحاصصة التأليف طيلة 6 أشهر هي الفترة الفاصلة بين انتخابات 15 مايو (أيار) 2022 وانتهاء الولاية الرئاسية ليل 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022. وهكذا، على أرض الواقع هناك حكومة مستقيلة، لم تنبثق عن البرلمان المنتخب، تصرّف الأعمال، وأُنيطت بها صلاحيات الرئاسة فوق صلاحياتها فاتسعت الهرطقة وتستمر الحكومة مركزاً شكلياً للقرار منذ 14 شهراً! لكن انتبهوا؛ فكل الصلاحيات آلت إلى ضابط الإيقاع إياه: قوة الأمر الواقع التي يمثلها «حزب الله» ودويلته، إنه الجهة التي تقرر متى يجتمع مجلس الوزراء وجدول أعماله وقراراته!
في الشغور الرئاسي والفراغ في السلطة وعشية انتهاء ولاية الحاكم سلامة يوم 31 الحالي، والفراغ المرتقب في قيادة الجيش يوم 10 يناير (كانون الثاني) مع تقاعد قائد الجيش، هناك جهة وحيدة تتحكم بالأمور. إنه «حزب الله» بما يمتلكه من فائض قوة مستفيداً من الخلل الوطني بموازين القوى، كما معرفته بنوعية معارضيه وأولوية مصالحهم الضيقة النفعية على كل ما عداها... فينتظر ولا يستعجل نضوج الثمرة وسقوطها في يده!
بعد عام 2005 تسبب «حزب الله» بثلاث أزمات شغور في الرئاسة. امتدت الأولى 6 أشهر بعد انتهاء ولاية لحود يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، فاقتنص «الثلث المعطل» أي حق الفيتو على كل الدولة. أما في المرة الثانية، فامتد الشغور 30 شهراً بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان في 24 مايو 2014، فنال كل صلاحيات الرئاسة، وتكرّس منحى يدفع إلى الاستغناء عن الدستور والسير باقتلاع البلد ووضعه على مسار تغيير ديموغرافي. وفي المرة الثالثة الراهنة مستمر الشغور من 9 أشهر، ولائحة الشروط التسليم لمشروع الاقتلاع. وكل «التعفف» بالقول أن ليس المطلوب ضمانات مكتوبة ولا مثالثة، يندرج في سياق إتقان «الحزب» التلاعب بالأزمة، بتركيز عناوين تصرف النظر عن مصدر التأزيم وهو التسليم ببقاء السلاح والدويلة التي تغولت على الدولة!
بهذا السياق، إن للشغور في الرئاسة المعطوف على الفراغ في السلطة وتلاشي المؤسسات، والمحكوم بقوة السلاح مفاعيل خطيرة على كل اللبنانيين؛ لأن المعارضة المفترضة عاجزة عن صرف نفوذها النيابي، وسقف مواجهتها متدنٍ وتكرر مواقف خشبية خالية من المبادرة السياسية. هي تعرف أن الحل الطبيعي الدستوري معروف، لكن متعذر التطبيق؛ لأن «حزب الله» يحجبه، بعدما قبلت من الأساس، إثر «انتفاضة الاستقلال»، المضي معه في اللعبة السياسية من خارج الدستور ومندرجاته، وفاتها قصور هائل في أدائها منعها عن إدراك المنحى الذي يُدفع إليه لبنان.
خطر التلاشي قائم ويحاصر الكيان والوجود. البلد يدور في حلقة فراغٍ مقفلة تسرع تآكل الدولة، لكن الرهان على الإنقاذ حقيقي مع تنامي الإدراك أن لا مستقبل للبنان وشعبه مع مشروع «حزب الله» الإلحاقي، ولا مع مشروع الآخرين تجديد المحاصصة الغنائمية، ولا بديل عن كسر الخلل الوطني بموازين القوى. الحاجة ماسة إلى تجديد في السياسة يستعيد النخب التي لم تنغمس بالحالة الزبائنية التي ارتبطت بنظام المحاصصة ومنافعه ومكاسبه، كمحطة محورية في تحفيز الأطر السياسية التي تنشأ على خلفية مغادرة الحالة الانتظارية، وفتح قنوات تواصل مع المتضررين وهم أوسع الفئات التي خسرت كل شيء، وبهم ومعهم، يمكن الرهان على خلق البديل السياسي، في مسار صعب، لكنه ممكن لاستعادة الدولة من خاطفيها!