بقلم- حنا صالح
مخطط إجرامي جهنمي يعيشه لبنان هذه الأيام. استثمار سياسي، من كل صوب، في ارتفاع حجم النزوح الفتيّ من سوريا. إضافةً إلى امتناع الحكومة عن أي مبادرة تعالج التسيب، يتسع التغاضي عن تشجيع مناخ تعصب عنصري مقلق، ويبشّر حسن نصر الله اللبنانيين بتكريس لبنان دولة مارقة مع تشجيع بدء مرحلة من الاتجار بالبشر دفاعاً عن النظام السوري. وبالتوازي تُشَنُّ حرب دونكيشوتية عظّمت ما سمّته خطر الشذوذ، مضمونها استهداف الحريات، بتأليب موجوعين ضد أشباه لهم من الناشطين السياسيين.
في المقابل تغيب عن الاهتمام الارتكابات في قضايا النهب والفساد وتداعيات الارتهان. تسود سياسة رسمية محورها تبرئة كارتيلات الإجرام السياسية الميليشياوية والمصرفية، فيُعتم على جرائم وكيل مافيا التفليسة رياض سلامة، وتُعطل الملاحقة البرلمانية والقضائية التي رتّبها «التدقيق الجنائي» في وضع مصرف لبنان، فيما طُوي واقعياً التحقيق في جريمة العصر: تفجير المرفأ وبيروت وما نجم عنهما من إبادة جماعية.
في مواقف «موالاة» النظام و«معارضته»، وعبر إعلام هو جزء من تركيبة تحاصصت البلد، لا شيء يتقدم مخططَ الإلهاء الآيل إلى حَرْف أنظار المواطنين عن أوجاعهم ومسببي مآسيهم. ضجيج يصاحب جولات الموفدين وحواراتهم، تتسع معه لعبة الإلهاء بطرح أسماء للرئاسة، مع مواعيد شهرية لإنهاء الشغور. ألاعيب يعرف كل المشاركين بها أنه في ظلِّ الخلل الوطني القائم يستحيل انتخاب رئيس للجمهورية لا يوافق عليه «حزب الله»، ويتجاهلون الأساس: خلل وطني مستنِد إلى دويلة السلاح، عطَّل تشكيل الحكومات، وأبقى الشغور الرئاسي 30 شهراً حتى فرض ميشال عون رئيساً، ويدخل الشغور اليوم شهره الـ12 ويمنع هذا الخلل البرلمان الفاقد للصدقية من انتخاب رئيس للبلاد في إجراء هو أولى مهامه وأهمها!
خطير ما يجري، لأنه يحمل محاولة مكشوفة لإعادة تشكيل الوعي العام، وفق أجندات المافيا المتسلطة ومصالحها، وهو منحى برعت به على الدوام القوى الطائفية والمذهبية، فاستمرت تستأثر بتأييد لافت من شرائح غير قليلة من المواطنين.
غداة «انتفاضة الاستقلال» عام 2005، وبروز المطالبات الواسعة بالعدالة وتطبيق القانون والدستور، ذهبت القيادات الطائفية إلى ما تتقنه وتعرفه ومنه تكدس الثروات. فكان «الاتفاق الرباعي» المجدد لنظام المحاصصة الغنائمي، الذي حتّمه خوف تلك القيادات من شعبها، وهول الآمال التي علّقها الناس على قيام دولة طبيعية لكل اللبنانيين مكان المزرعة التي أقامها زعماء الميليشيات والطوائف تحت رعاية الوجود السوري، فسقطت أول محاولة جدية لإنهاء الخلل الوطني بموازين القوى.
بلورت ثورة «17 تشرين» 2019، التي أثبتت أنها عصيَّة على الارتهان والتطويع، رداً شعبياً جارفاً تَمثل بمصالحة حقيقية أنجزها الناس بعيداً عن وصاية الزعماء، فكسرت بذلك ثقافة الكانتونات والتقسيمات المناطقية، وتوجهت إلى المتسلطين بالتأكيد أن حقوق المواطنين ثابتة وسيتم انتزاعها. هذا المناخ التشريني أعاد فتح الباب للسير على طريق إنهاء الخلل الوطني، وجاءت الانتخابات العامة في 15 مايو (أيار) 2022 لتمنح هذا الاحتمال مصداقية أكبر، مع تصويت عقابي مارسه أكثر من 400 ألف مقترع ضد الطبقة السياسية. فوضعت الانتخابات لبنة رئيسية دافعة لقيام «الكتلة التاريخية» الشعبية العابرة للطوائف، والجاذبة للنخب والحيثيات المدينية والمناطقية، القادرة على بلورة بديل سياسي يستعيد الثقة لإنقاذ البلد!
ومنذ حرم التصويت «التشريني»، «حزب الله» من أكثريته، ومنع الأكثرية عن معارضته، بدأت حملات كسر الوعي الوطني الذي نما على ضفتَي الانقسام «الآذاري» الطائفي السابق... وتتالى فتح المعارك الجانبية، وإغراق المواطنين بقضايا مفتعلة عموماً، أو ليست أولوية، لمنعهم من التصويب على الأساسيات. وإذا كان لبنان «أسير التاريخ ورهينة الجغرافيا»، وفق توصيف الزميل الأستاذ إياد أبو شقرا، فهو أولاً وأخيراً مخطوف من تحالف مافيوي فاجر استسهل تغطية الارتهان للخارج مقابل محاصصة سلطوية مستمرة وظّف لخدمتها التاريخ والجغرافيا!أصواتهم المرتفعة وطروحاتهم لا تغطي أهدافهم الحقيقية. أولوياتهم تعزيز مواقعهم السياسية في التركيبة الطائفية الغنائمية، مع انفراد «حزب الله» بسعي مكشوف للإمساك أكثر بالسلطة عبر الرئاسة لأن قراءته الانتخابات الماضية أقلقته وهددت مشروعه اقتلاع لبنان لإلحاقه... ويراد من هذه السلوكيات أن تغطي أدوار قوى هي في موقع التحالف الموضوعي. ما بعد عام 2005 حتى «ثورة تشرين»، كانوا معاً، «موالاة» النظام و«معارضته»، في سرير حكومي واحد طيلة 11 سنة، وهم في شراكة وثيقة في اللجان النيابية ومطبخ التشريع منذ 23 سنة، شراكتهم ثابتة في المسؤولية عن الانهيارات، ووحده القضاء مَن يحدد يوماً مسؤولية كل جهة!
كان الانهيار هدفاً ولم يكن قدراً، والمستفيد منظومة كاملة. وبعد 4 سنوات على إعلان الإفلاس وتمدد الإفقار ما من خطة لمواجهة الكوارث المتدحرجة. ولأنه مستحيل أن يعيد اللصوص ما سرقوه وأن يحترم مَن استباح البلد السيادة والدستور، فإنهم يواصلون النهج إياه. ودائع الناس التي وضعوا أعينهم عليها منذ عقدين هي أهم مصدر للتمويل بالدولار، وهم أهدروا المليارات في سياسات مبرمجة خلقت أثرياء جدداً، وموّلت احتكارات وكارتلياً مصرفياً ناهباً وميليشيا «حزب الله» كميليشيات في سوريا، عبر التهريب والدعم العشوائي وسرقة الودائع... ويخدعون العامة بأن مفتاح الحلول انتخاب رئيس... يخدم مواصفاتهم للرئاسة!
مبرمجة كل المعارك الجانبية التي يتم فتحها، وإغراق البلد في تشكيلات ميليشياوية طائفية كاريكاتورية اليوم قاتلة في الغد، والاستهداف الدائم للحريات... كلها عناصر مترابطة في سياق يستهدف الوعي التشريني لتأبيد تسلط قوى الانهيار والارتهان ما يحتّم الحذر من أبعاد مخطط الإلهاء الجهنمي!