بقلم - حنا صالح
عندما بدأ «حزب الله» يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول)، «مشاغلة» العدو «إسناداً» لغزة، كان شديد الاطمئنان إلى خنوع الجبهة الداخلية التي يقبض على قرارها مطمئناً لانتفاء تأثير الأكثرية الشعبية الرافضة قراره توريط لبنان في حرب مدمِّرة، لا يأخذ على محمل الجد إعلان «معارضة» نظام المحاصصة رفضها أجندته الخارجية.
في الشهر السادس على بدئه الـ«ميني حرب»، متمسكاً بنهجٍ كلّف لبنان لتاريخه ثمناً باهظاً من أرواح مواطنيه بعد مقتل 325 منهم، لا يُقلقه هول دمار يستنسخ غزة في عشرات البلدات الحدودية، ودمار طال قرابة 50 بلدة، فيما تراوحت أرقام النازحين المتروكين لمصيرهم بين 130 و150 ألفاً، هم أهل منطقة حوَّلها العدو إلى أرضٍ محروقة، تخدم مخططه بفرض حزام أمني! ليطرح السؤال نفسه عن الأحوال التي منحت «الحزب» القوة المتمكنة من أخذ البلد إلى حيث يشاء، والقادرة على «تطويع» معارضيه المفترضين!
هنا تبدو العودة ضرورية إلى أحداث عام 2005 وتداعياتها، وقد مضى على 14 مارس (آذار) 19 سنة بالتمام والكمال. في يوم 13 مارس 2005 اجتمعت اللجنة المنبثقة عن «لقاء البريستول»، الذي رفض استمرار الوجود السوري. تدارس المجتمعون المعطيات اللوجيستية لضمان نجاح التحرك الشعبي المحدد في اليوم التالي، وأبدوا الارتياح مع توقعات بمشاركة نحو 500 ألف لبناني في مظاهرة الرد على مظاهرة «حزب الله» ومحوره التي حملت عنوان «شكراً سوريا»!
حدث اليوم التالي فاق أكثر التوقعات تفاؤلاً، مع احتشاد فاق المليون ونصف المليون مواطن، ضاقت بهم العاصمة في مشهدٍ لم يعرف له لبنان مثيلاً في تاريخه. رفعوا العَلم اللبناني، ودعوا إلى إجلاء الجيش السوري، وطالبوا بالحقيقة والعدالة ومحاسبة رموز النظام الأمني... يومها بلغت «انتفاضة الاستقلال» الذروة، لكن، من تدافع المتزعمين على المنصة إلى مضمون كلمات بعضهم، جعلت سمير قصير يقول: خلصت!
كان المفترض ترجمة الضغط الشعبي بإسقاط الرئيس المعزول إميل لحود، رمز النظام الأمنيّ، لكنّ القيادات الطائفية لقوى «14 آذار» خافت من شعبها فاندفعت إلى «الاتفاق الرباعي» مع «حزب الله» رأس محور الممانعة. اختارت تعميق المحاصصة الطائفية على أساس «فيدرالية طوائف» وفق توصيف الكاتب رفيق خوري، أو متزعمي الطوائف، مما أرسى منحى مغايراً عن اتفاق الطائف. تخلّوا عن أحلام مواطنيهم بالوفاء لشعار استعادة الدستور وقيام دولة طبيعية بديلة عن الدولة المزرعة، تُحترم فيها القوانين، وتُصان فيها الحريات، وتفتح أبواب المنافسة أمام الكفاءة. لتصبح الحصيلة اغتيال «انتفاضة الاستقلال» وسقوط إمكانية إنهاء الخلل الوطني بموازين القوى، وهو أمر فرضه الوجود السوري، مستفيداً من مآسي الحرب الأهلية التي توجت بخراب «حرب الإلغاء» التي أعلنها ميشال عون في وجه مناوئيه «القوات اللبنانية».
«الاتفاق الرباعي»، وبعده «حرب تموز»، اللذان شكّلا منصة لـ«حزب الله» كي يقضم السلطة، قادا إلى اجتياح «القمصان السود» لبيروت في 8 مايو (أيار) 2008، ما عبّد طريق معصية «اتفاق الدوحة». «اتفاق» حكم البلد ببدع حلّت مكان الدستور وأهمها «الثلث المعطل» الذي منح «حزب الله» حق الفيتو على الدولة. «اتفاق» فرض الثلاثية الشهيرة «جيش وشعب ومقاومة» في بيانات وزارية للحكومات المتعاقبة. مُذّاك أدار «حزب الله» ظهره للجيش والشعب، وأطلق بقوةٍ دويلته الموازية، وغطَّت حكومات «الوحدة الوطنية» اختطافه الدولة، وتغاضت عن تجويفه القرار 1701 وشيطنته لاحقاً، بالزعم أنه وُجد لحماية حدود العدو، في حين أنه كان بوليصة أمان فرض انسحاباً إسرائيلياً من الأراضي اللبنانية. وتأكد باكراً أن الدور الموكل لـ«الحزب» متعارض مع القرار، وتنفيذه أشبه بإطلاقه الرصاص على قدميه!
قاد مناخ «فيدرالية الطوائف» ومحاصصاته، إلى أخطر «تسوية رئاسية» عام 2016، عندها تكرس نجاح الانقلاب النوعي على «انتفاضة الاستقلال» الذي استكمل الانقلاب على «الطائف» والجمهورية. المرة الأولى في ظلِّ سيطرة المحتل السوري، وفي الثانية تحت سلبطة «حزب الله» وأجندته الإيرانية... بعد ذلك ساد كثير من الخلط واستغباء الناس بالزعم أن قوى «14 آذار» التي نالت أغلبية نيابية عامي 2005 و2009 منعها السلاح من الحكم. فيما الواقع الناطق يقول إنها لم تحاول الحكم ولم يكن لديها برنامج حكم. وللذكرى فإن سعد الحريري ليلة الفوز الانتخابي الكبير عام 2009 رفع شعار «كلنا تحت سماء لبنان» ومنحت حكومته «الثلث المعطل» لـ«حزب الله» وفريقه، فكان أن أسقط الحكومة لحظة دخول الحريري البيت الأبيض عام 2011. ومذّاك انفرد «الحزب» بتأليف الحكومات وتحديد السياسات العامة التي حظيت بموافقة الآخرين!
باكراً أخرجت «معارضة» نظام المحاصصة نفسها من دائرة صناعة القرار السياسي. قدمت مصالحها الفئوية الضيقة وانغلقت على حصصها من النظام الغنائمي لتتنامى الزعامات الطائفية وتتفجر صراعاتها المذهبية على أشلاء الدولة. هم قوى سلطة فقدت صلاحيتها الوطنية وأهليّتها، فتركت المؤسسات تتصدع والدولة تتفكك وغطَّت تغوُّل الدويلة عبر شراكتها حكومات «الحزب» كما اللجان البرلمانية، ما مكّن نظام الملالي من إحكام قبضته.
إنها معارضة صوتية لا تُزعج «حزب الله» ولا تعيق دوره أو تعطل اندفاعته في ارتهان البلد بعدما باتت واجهة القرار والصلاحيات بين يدَي نبيه بري ونجيب ميقاتي، وكلاهما نجح في امتحان الولاء للمخطط المرسوم، ما كرّس طي صفحة الصلاحيات المنوطة حصراً برئاسة الجمهورية. ولئن عطّل هذا الوضع أي منحى إنقاذي، فإن التحالف المافياوي، الابن الشرعي لنظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، لم توقفه أهوال الحرب المفتوحة على اللبنانيين ولا اتساع بنك الأهداف الصهيوني الذي بلغ بعلبك، فاندفع إلى استكمال مخطط محكم لمزيد من إفقار البلد وأهله، مع بدء الكارتل السياسي الوزاري النيابي الميليشياوي الناهب، التصويب على الذهب لتسييله ووضع اليد على أصول الدولة لنهبها ومفاقمة ثروات مافيا الفساد والسلاح.