بقلم:حنا صالح
لافتاً كان المشهد في قصر العدل يوم 27 يناير (كانون الثاني) الماضي. مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، المدعى عليه في جريمة تفجير المرفأ وبيروت، يتوجه إلى مكتبه في قصر العدل، تحيط به قوة أمنية مدججة تتبع جهاز أمن الدولة، الذي يرأسه اللواء المتقاعد صليبا المدعى عليه في الجريمة نفسها!
القاضي عويدات المتنحي قانوناً عن جريمة العصر لصلة قربى مع المدعى عليه النائب والوزير السابق غازي زعيتر، وضع يده تعسفاً على القضية، وادعى على القاضي المفترض أن يحقق معه! كما أطلق الموقوفين، لينتقل أحدهم (مسؤول الأمن)، ويحمل الجنسية الأميركية إلى الولايات المتحدة، «مستبقاً» وصول قرار منع السفر (...). ومنع تنفيذ إجراءات القاضي البيطار، واستكمل خطواته بتسطير رسالة إلى اللواء المتقاعد عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام، المدعى عليه كذلك، يطلب فيها منع سفر المحقق العدلي!
منذ الـ25 من يناير، يشهد لبنان انقلاباً على العدالة لم يعرف له مثيل زمن الحرب الأهلية، توّج السطو على الودائع وكل مقومات عيش اللبنانيين، واجهته مدعي عام التمييز نيابة عن «منظومة 4 آب»، التي كانت تعلم أن بيروت تُركت تنام على وسادة نووية! وتشهد العملية الانقلابية هجمة لتجريد المحقق العدلي من دوره وصلاحية التحقيق المحصور قانوناً بشخصه، لتوجّه بالتالي رسالة ترهيب إلى اللبنانيين، جوهرها أن «العدل» تحت حكم القوة، وممنوع المساس برموز السلطة، وكذلك نظام «الحصانات» وقانون «الإفلات من العقاب»! وأن المتسلطين ماضون في مخطط إغلاق الملف نهائياً، مهددين بأن العدالة توازي حرباً أهلية!
من المفيد العودة قليلاً إلى الماضي القريب بعد التفجير الهيولي في 4 أغسطس (آب) 2020، للإضاءة على الضغوط التي حملت عنوان إغلاق ملف تفجير المرفأ. لقد كان هذا الهدف محورياً في خطب حسن نصر الله التي شككت في التحقيق، واستهدفت نزاهة ومصداقية المحقق العدلي، وليطالب نصر الله بعدها بإعلان التحقيق الأولي (أي الأمني)، الذي نسب جريمة العصر إلى عملية تلحيم في العنبر «رقم 12»! والذريعة أن هذه الخطوة ستحل قضايا مواطنين معلقة مع شركات التأمين، وتحل بتسديد موجبات عقود التأمين!
اتسعت الضغوط على الحكومة ومجلس القضاء الأعلى لتغيير المحقق (...)، ولما لم يستمع البيطار إلّا لصوت ضميره، ووجع المدينة، التي استُبيحت؛ اقتحم وفيق صفا المسؤول الأمني في «حزب الله»، العدلية متسلحاً بفائض قوة الدويلة التي اختطفت الدولة، ليوجّه رسالة بـ«قبع» قاضي التحقيق! وأعطى التهديد بـ«القبع» إشارة انطلاق لتفجير التحقيق العدلي، فانطلقت دعاوى «الرد» و«كف اليد» و«مخاصمة الدولة»! واحتجز «الثنائي المذهبي» المستأثر بوزارة المال، تشكيلات قضائية جزئية تستكمل هيئة محكمة التمييز المولجة البت بهذه الدعاوى، فتعطل المسار القضائي من ديسمبر (كانون الأول) 2021! وأطلقت منظومة «4 آب»، مرحلة افتراء على الدستور والقضاء، عنوانها تعيين قاضٍ رديف، في هرطقة تهدف إلى شرذمة وإنهاء التحقيق!
طيلة المرحلة التي سبقت 25 يناير ناصب عويدات العداء للقاضي طارق البيطار، وكجهة تتبعها الضابطة العدلية منع التبليغات، كما حال دون تنفيذ قرارات الجلب والتوقيف، التي طالت رموزاً سياسية كبيرة تولت مسؤوليات خلال مرحلة إدخال شحنة الموت (نيترات أمونيوم) وتخزينها في العنبر «رقم 12»، أو في مرحلة حدوث التفجير المروع! لكن تصدر مدعي عام التمييز الحالة الانقلابية، التي طالب بها علانية «حزب الله»، بدا كردٍّ قوي على عودة البيطار إلى ملفه، استناداً إلى اجتهاد قانوني - قضائي محكم، انطلق منه للادعاء على 8 رموز سياسية وأمنية وقضائية بينها عويدات، وتحديد مواعيد استجوابهم بين 6 و20 فبراير (شباط) الحالي، وفي العمق فإن النائب العام تقدم أكثر في دور الحارس الفعلي لقانون «الإفلات من العقاب»!
في أحد مسارات التحقيق المعلنة، ارتأى القاضي البيطار الادعاء بجناية «القصد الاحتمالي بالقتل» ضد من تسلم تقريراً، أو تمت مخابرته وإحاطته علماً، باحتمال حدوث كارثة كبرى نتيجة تخزين 2750 طناً من «النيترات» في المرفأ ولم يتحمل المسؤولية الملقاة عليه. ميشال عون الذي في عهده تم إرسال اللبنانيين إلى الجحيم، أعلن أنه كان يعلم، ولكن لا يمكن مساءلته دستورياً، في حين قال وزراء مدعى عليهم كيف لهم أن يعلموا أن كارثة ستقع من خلال «ورقة تسلموها»! لكن المعطيات المعلنة التي سبقت جريمة العصر، تشير إلى أن عويدات كان أكثر من سواه في قلب الصورة؛ نظراً لمركزه القضائي الحساس!
في 28 مايو (أيار) 2020 ختم الرائد النداف تقريره عن النيترات المخزنة، ورفع سماعة الهاتف وخابر المدعي العام، ونقل إليه تحذيراً من خبير كيميائي بأنه إن اشتعلت هذه المواد فستتسبب في تفجير يدمر كل المرفأ! وفي الأول من يونيو (حزيران) أحال النداف نسخة خطية من تقريره إلى عويدات وقيادة جهاز أمن الدولة، وتسلم التقرير رئيس الحكومة دياب والرئيس عون، وغيرهما! في المحصلة طلب عويدات إفادة محمد العوف مسؤول الأمن (أصبح في أميركا) ورئيس الميناء محمد المولى، فأكدا أن المواد خطرة وموجودة منذ سنوات، فأمر بتركهما! وبالمقابل أمر بتأمين العنبر و«تعيين أمين مستودع وحماية الأبواب والجدران والأقفال»!
واضح أن عويدات، كما كل الآخرين، لم يولوا الملف الاهتمام اللازم ولم يتحركوا لتدارك خطر محتمل، في قضية تفترض أعلى التدابير الأمنية، بعدما كان نتنياهو وضع مرفأ بيروت ضمن بنك الأهداف الإسرائيلية، ولا يفوت عويدات حجم ودور ميليشيا «حزب الله» إنْ في المرفأ في السيطرة على العنابر أو الأرصفة!
غداة التفجير الهيولي قال جنبلاط إن شحنة الموت عائدة للنظام السوري، ولأن طريق طرطوس - دمشق كانت آنذاك مقطوعة؛ جلبوا «النيترات» إلى بيروت، وكانت تنقل براً لتستخدم في البراميل المتفجرة التي أُلقيت على رؤوس السوريين ورمدت سوريا! كانوا يعلمون، وتركوا وسادة موت تحت رأس العاصمة! رفضوا الرضوخ للتحقيق، ولأن هاجسهم منع البيطار من إصدار قراره الاتهامي؛ نفذوا انقلاباً سافراً، برره عويدات بأنه يستبعد الشارع والدم (...)، في حين شكل موقف اللواء عباس إبراهيم تهديداً بالحرب الأهلية بقوله: «بيروت هي أم الشرائع، فلا تجعلوها أم الشوارع» (...). لقد مزقت منظومة «4 آب» الشرائع والدستور وعطلت القوانين، فتفاجأت بأداء قضائي قانوني اعتمده البيطار يمكن أن يرمم بعض ما هدموه، فقرروا قلب الطاولة!
خطيرٌ الوضع، لكن أبرز الجهات القانونية أدانت الانقلاب وطالبت عويدات بالاستقالة. نادي القضاة وصفه بـ«قاضٍ رهن نفسه لخدمة السلطة واللاعدالة، وعليه أن يبادر إلى الاستقالة». واعتبرت نقابة المحامين ما حدث «قتلاً للضحايا في قبورهم»... ودعته إلى «الرجوع عن قراراته التي تحمل أخطاءً جسيمة». و40 نائباً دعموا المحقق العدلي وطالبوا عويدات بالاستقالة.
وتوازياً يتأكد أن لا عدالة ستتحقق، ولا حقوق ستُلبى ما دام الخلل الوطني قائماً في ميزان القوى. لو كانت هذه الهوة مردومة، ولدى اللبنانيين حكومة مستقلة تمثلهم، لكان المرتكبون خلف القضبان، ولما كان قاضٍ متنحٍّ أصلاً ومقبول تنحيه أصولاً، أن يقدم على عملية انقلابية بهذا الحجم، ويتوجه إلى اللبنانيين ليخيّرهم بين اللاعدالة والحرب الأهلية!