بقلم - حنا صالح
لا أمر طارئ في لبنان ولا أمر داهم! التعامل الرسمي مع اللبنانيين ينطلق من مقولة إنه بوسعهم التكيف مع الكوارث التي تضرب البلد وتخنقهم مع انهيارات لا قعر لها. وأمام رفع الصوت: لبنان لم يعد يحتمل وأوضاع اللبنانيين لم تعد تحتمل، فإن من بيدهم القرار يتغافلون مطمئنين أن لبنان واللبنانيين يتحملون، ويتعامون عن مراكمة الغيظ، ويتجاهلون مظاهر التفلت الاجتماعي التي تنذر بعواقب وخيمة.
في بلدٍ ركز الدستور كل السلطة بين أيدي مجلس الوزراء، بحيث بات خروج موظفٍ إلى التقاعد يتطلب قراراً حكومياً، لم يجد المتسلطون ضرورة لتشكيل حكومة جديدة. طوي التأليف، والحكومة المستقيلة مستمرة في تصريف الأعمال منذ 116 يوماً، هي الفترة التي تلت إجراء الانتخابات النيابية في 15 مايو (أيار)، ودخلت البلاد مرحلة الاستحقاق الرئاسي، والمتبقي من زمن «العهد القوي» 53 يوماً فقط، وكل ما يشاع يؤكد تعذر الانتخاب! ما يعني أن الشغور الرئاسي سيضاف إلى الفراغ في السلطة التنفيذية!
باتت الأولوية محاكاة الاستحقاق الرئاسي، والأمر طبيعي وضروري، خصوصاً أن كثرة من اللبنانيين تتابع العد التنازلي لزمن «العهد القوي»، الذي دخل في سجل الرئاسات بوصفه عهد إرسال اللبنانيين إلى الجحيم. لكن كان المأمول تشدداً نيابياً بضرورة تأليف حكومة جديدة بعد الانتخابات العامة، مع الإصرار على تركيبة وزارية تلاقي بقدر معين ما باحت به صناديق الاقتراع من اتجاه للتغيير.
اللافت في التركيز على الاستحقاق الرئاسي يُبين أن قوى واسعة تعتقد أن التغيير ممكن من الأعلى إلى الأسفل، أي من رئاسة الجمهورية. وكل الطروحات، ولا سيما مبادرة نواب الثورة، ركزت على ما يفترض بشاغل الرئاسة أن يكون، إن لجهة الدور ونوعية المهام أو المواصفات التي يجب أن يمتلكها، فهو بوصلة مسار استرجاع الدولة واستعادة الجمهورية وإنقاذ لبنان الحر والمستقل. هذا مع العلم أن المواصفات تحتاج في النهاية إلى تجسيدها في الشخص الذي يمكن أن يحملها. لكن الإيجابي أنه بمقابل طغيان الأحاديث عن رئيس - دمية يريده «حزب الله»، تحدثت المبادرة عن مواصفات رئيس يحتاجه لبنان. ولئن لم تسرف المبادرة في التوقعات، فإن مجرد السعي لبلورة مساحة سياسية لإخراج الاستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة، يسجل إيجاباً في خانة تكتل نواب التغيير، لكن السؤال الكبير يكمن في كيفية إيصال رئيس للبلاد متمسك بالدستور وبتطبيق القوانين، ويمكنه طي زمن ممارسة الحكم من خلال البدع والفتاوى!
مع الفارق الكبير بين ما حملته مبادرة نواب الثورة، ومنحى ميز دوماً الحياة السياسية بتقدم رهانات سادت في كل العهود، سداها ولحمتها، أن الرئاسة الآتية يمكن أن تكون بوليصة خلاصٍ للبلد، حتى إن بعضهم، قبل 6 سنوات، وخلافاً لأي منطق، صور تسلم ميشال عون الرئاسة بأن الحدث صناعة لبنانية، سيطلق زمن مكافحة الفساد وبدء الإصلاح. لكن التاريخ المتأتي عن مثل هذه الرهانات أكد على الدوام أن المطلوب أكثر بكثير، فاتسعت الأزمات وتعمقت، لتبلغ حد الهزل في مرحلة رئاسة عون، التي شهدت إدارة سياسية هاجسها الوحيد خدمة المصالح الخاصة وإدارة الظهر للناس والبلد. مرة أخرى، يكمن التحدي في كيفية إيصال «رجل دولة» إلى القصر الجمهوري في ظل التركيبة الراهنة، مع تغول الدويلة وتوسعها وهيمنة «حزب الله»، الذي وإن فقد أكثريته النيابية، أي قدرته على الفرض، فهو يمتلك القدرة على التعطيل!
طبعاً لا يهدف هذا الكلام لأي استنتاج متسرع كالقول إن المبادرة غير جائزة، بل من أجل إثارة السؤال ألا وهو ما البديل إن فشل الطرح، وأمام المتابعين وقائع مادية تؤكد استحالة تغيير موازين القوى من خلال المسار الدستوري لانتخاب رئيس للجمهورية؟ والأمر المعلن أن الثنائي «المتحالف» الفريق العوني و«حزب الله» يراهن على الشغور الرئاسي، ما دام التوازن الدقيق يمنع عون من توريث الرئاسة إلى جبران باسيل، ومتعذر على «الحزب» استكمال مخطط الإطباق على الجمهورية بإيصال «رجله» إلى القصر، رغم افتضاح وانكشاف التعسف السياسي لـ«حزب الله» الذي يراد منه الإيهام أنه الجهة التي تمتلك لبنان!
الأكيد أن الصراع في لبنان، بما في ذلك على رئاسة الجمهورية، هو صراع بين مشروعين؛ مشروع «حزب الله» ومشروع «17 تشرين»، وما من مشروعٍ آخر بينهما. إن مشروع «الحزب» هو المضي في اقتلاع البلد واستتباعه، بعد فرض تابع له في الرئاسة، يدفع إلى الأمام مرحلة انتقالية إلى لبنان الآخر المختلف، ليتكرس قاعدة صواريخ يتم تحريكها دفاعاً عن نظام الملالي، وأقله كما دأب حسن نصر الله على التأكيد أن السلاح ليس فقط لمواجهة إسرائيل «بل أيضاً لمواجهة كل المشروع الأميركي في المنطقة»! فيما التغيير هو مشروع ثورة «17 تشرين»، الذي يقوم على استعادة العمل بالدستور ومندرجاته والتزام القوانين، وطي صفحة زمن تحاصص البلد، وتوزيع السلطة كحصص وزارية وإدارية على متزعمي الطوائف باسم الطوائف ونيابة عنها. وفي السياق نفسه شكلت مبادرة نواب الثورة خطوة متقدمة في سياق المنحى التشريني، لجهة تأكيدها أن لبنان بحاجة في الرئاسة لـ«رجل دولة» من خارج الاصطفافات المعروفة، وليس مجرد رجل سلطة، فقد تم تجريب الكثير منهم، والأكيد أن هذه النماذج فضحتها وعرتها ثورة «17 تشرين»!
قبل 53 يوماً على موعد مغادرة عون القصر الجمهوري، لن تبدل التحذيرات من مخاطر الشغور الرئاسي حرفاً، خصوصاً مع تكريس الحاجة إلى الثلثين (86 نائباً) كنصابٍ في أي جلسة انتخاب، والقتال على الرئاسة مع هذا النوع من التوازن لن يفضي إلى إيجابية. لذلك مع إعلان تكتل التغيير في مبادرته أن مشروعه السياسي، «مشروع الكتلة التاريخية العابرة للاصطفافات الطائفية والمناطقية والزبائنية»، يكون قد وضع الاستحقاق الرئاسي في السياق المكمل لمحطة الانتخابات النيابية، ورسم الممر الإجباري وربما الوحيد الذي من شأنه وضع مشروع «ثورة تشرين» في التطبيق.
بعد عقود من السيطرة الخارجية وباسم الخارج على لبنان والحياة السياسية، هناك تصحر في قامات رجال الدولة الحقيقيين، لأنه جرى حصر المناصب والمراكز بمن سموا «الأقوياء» في طوائفهم. فغابت الكفاءات، وكان التدني بمستوى كل الطبقة السياسية، فتسنم مطلوب بالجناية في جريمة تفجير المرفأ عضوية لجنة الإدارة والعدل، وانكشفت سلطة «الأقوياء» فهم لا شيء في ظل هيمنة حزب مسلحٍ يقرر من خارج السلطة!
كبيرة التحديات ومتنوعة الرهانات والمفتاح في هذه اللحظة جعل هذا الاستحقاق الدستوري محطة في سياق بلورة البديل السياسي. هنا تكمن أهمية قيام «الكتلة التاريخية» التي تجمع، من دون تفرقة أو إبعاد، التشرينيين المنظمين سياسياً، والكفاءات والحيثيات التي جمعتها المعركة الانتخابية، إلى الأعداد الكبيرة والشرائح الشعبية التي تسعى منظومة النيترات لتحميلها ثمن الاستتباع والانهيارات، وإذ ذاك ستتظهر القدرات القيادية، فالبلد زاخر بالنخب والكفاءات التي لم تتح لها الفرصة للنهوض بلبنان.