بقلم - حنا صالح
يخيم الانسداد السياسي على المشهد الرئاسي اللبناني. منذ 105 أيام يمتنع رئيس البرلمان عن توجيه الدعوة لانعقاد جلسة انتخابية، رغم أن البرلمان دستورياً هيئة ناخبة لا مهام تشريعية له قبل انتخاب الرئيس الجديد. لكن رئيسه، من فرط شغفه بالديمقراطية، يربط القرار بالدعوة لأي جلسة، باقتناعه بوجود أكثر من مرشح! وبذلك يكتمل التعطيل: تعطيل سلطة التشريع بعد الشغور الرئاسي والفراغ في السلطة الإجرائية!
من المؤكد أن الموقف الفرنسي الأخير من موضوع رئاسة الجمهورية، نبّه إلى أن الانسداد مقيم، عندما قلب صفحة ترويج الفريق الممانع بأن رئاسة فرنجية باتت في اليد. فإعلان باريس أن «ليس لديها أي مرشح في لبنان»، نسف رغباتٍ في بيروت عن دعم فرنسي مفتوح للوزير السابق سليمان فرنجية! الذي من إطلالته من بكركي كشبه مرشح، وقبلها زيارته لباريس والضمانات المكتوبة التي قدمها كضمان لدعمه، وينظر إليها الناس بلا مبالاة كاملة، نسق خطواته مع «حزب الله» لترسيخ الإيحاء بأنه رجل المرحلة للإنقاذ!
اللافت أن أكثر ما أراد سليمان فرنجية، مرشح الثنائي المذهبي، توصيله إلى الناس كأوراق قوة، أنه الشخص القادر على الحوار مع النظام السوري لحل مشكلات عالقة من عودة اللاجئين إلى ترسيم الحدود. كما أنه القادر على التحاور مع «حزب الله»، فأعاد طرح الحوار للاتفاق على سياسة دفاعية، مع تسليمه المسبق بأن مسألة السلاح إقليمية أكبر منا (..) وضمناً عاد إلى الدفاتر القديمة، لما كان قد تعهد به الرئيس السابق ميشال عون، والنتيجة معروفة. لكن، قياساً على تعمق الانهيارات والأزمات التي ازدادت سوءاً ودفعت البلد إلى الحضيض، فات فرنجية أنه أعاد تأكيد المؤكد من قناعة لدى أكثرية المواطنين، تعتبر الجزء المحوري من المسؤولية عن مآسي لبنان واللبنانيين، مرتبطة بهذا المحور، وعليه فإن الجهة المسؤولة عن السياسات التي أرسلت اللبنانيين إلى الجحيم ليست الجهة الصالحة للإنقاذ وإعادة النهوض!
لكن العارفين بالسياسات التي يتبعها «حزب الله»، يؤكدون أن هذا التطور لن يوقف مساعيه الهجومية لسببين على الأقل: أولهما مرتبط بتفسيرات «غب الطلب» للاتفاق السعودي الإيراني، وما يُروجه الفريق الممانع من أنه عزّز من مكاسب النظام الإيراني، فيما الواقع يقول إن الجهة الأخرى في الاتفاق (السعودية) ليست أبداً في موقع الفريق المهزوم، فيما العكس هو الصحيح. وفوق الحقائق المادية، ولتغطية مسؤولية أتباعها عما آل إليه الوضع في ظلِّ انفرادهم بالسلطة، لم تتأخر طهران عن طمأنة أذرعها بأن الاتفاق لن يبدل حرفاً من الأدوار المرسومة لها. وضمن هذا السياق جرى «الاستعراض الصاروخي» من الجنوب، كتتويج لنهج الابتزاز والترويع، في استخفاف خطير بالسيادة وبما كان يمكن أن يجره على لبنان وأهله كما المقيمين.
أما السبب الثاني، فيعود لشعور هذا الفريق بضعف يعتري صفوف «معارضة» النظام. ففريق الخطاب المرتفع عن «السيادة» و«الإصلاح» و«اللبننة»، التي يقول أصحابها إن هاجسهم مواجهة الخطر الوجودي الداهم، وأن المدخل لذلك تحرير رئاسة الجمهورية، لم يقدموا إلاّ ردات فعل محدودة على ممارسات «موالاة» النظام. انعدمت عندهم المبادرات الجدية للإنقاذ، ولم يقدموا أي رؤية مغايرة للسائد، وتعاموا عن واقع أن من يدعي حمل عنوان المعارضة، مطالب بتقديم رجال دولة وليس رجال سلطة ستطالهم يوماً المحاسبة، ومطالب أقله بأن يقدم مشروعاً واحداً جدياً لإنهاض لبنان من الانهيار الكامل، لكن ذلك لم يحدث، لا اليوم ولا منذ ثلاث سنوات ونصف السنة تاريخ انفجار الأزمة. لذلك تقدم التفكك الداخلي ما اضطر باكراً هذا الفريق لوضع مرشحه المعلن ميشال معوض على قارعة الانتظار، وطرح الاستعداد للبحث في الأسماء، أو الخيار الثالث للرئاسة، فيما يضغط «حزب الله» لإفهام الآخرين بتعذر تجاوز ترشيح فرنجية!
هناك ما يجمع رئاسياً بين «معارضة» النظام و«موالاته» هو الرهانات المفتوحة على الخارج، فيما الحل الممنوع الذهاب إليه، يكمن في العودة إلى الدستور والكف عن الرهانات التي تخرق المهل الدستورية. يديرون الظهر إلى أزمة بنيوية تهدد لبنان ويتسع الإنكار. وبالانتظار، تنهار العملة ويسجل التضخم أرقاماً قياسية، ويتبخر المتبقي من الودائع على «منصة صيرفة» التي خلقت أثرياء جدداً. ويتسع العوز والجوع مع تراجع مريع في الخدمات، ويتسع اليأس مع المضي بتدفيع البلد كلفة تسلط أخطر تحالف مافياوي، حدّد أولويته الفعلية توافق على إعادة ترميم نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي!
في السياق كان التوافق على سياسة شراء الوقت للخلاص مما يفترضونه شبح ثورة تشرين وما حملته من تأثير، عندما جمعت أكبر توافق شعبي على انعدام الثقة بكل المسؤولين، فهدروا مليارات الدولارات من الودائع المنهوبة، في محاولات توظيف آثمة، لم تطمس التوافق في التعاطي مع أكبر جريمتين ضربتا لبنان: جريمة نهب الودائع وجريمة تفجير المرفأ!
في الأولى عرف لبنان أكبر إبادة اقتصادية نقلت نحو نصف الشعب اللبناني من وضعٍ اقتصادي جيدٍ ومريح إلى الفقر والفقر المدقع. وفي الثانية بقيت أكبر إبادة بشرية في زمن «السلم الأهلي» خارج أي مساءلة أو محاسبة، وتمت حماية المدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، وأُعيد انتخاب مدعى عليهم وعادوا يحتلون مواقع نافذة في البرلمان بتأييد ودعم «معارضيهم» المفترضين! وبين الجريمتين تعمم الفساد من فوق مع تهربٍ ضريبي وتبييض أموال وتمويل إرهاب وإثراء غير مشروع. واللافت أن بعض مرتكبي هذه الجرائم المتهم بها الكارتل المصرفي الناهب، وصفها القضاء الفرنسي، بأنها من شغل «عصابة أشرار»!
مع مشاريع من نوع وضع اليد على أصول الدولة لإعادة تمويل السارقين، ومع تجاوز حكومة تصريف الأعمال حد السلطة، بإصدار قانون «كابيتال كونترول» عجزوا عن تمريره في البرلمان كونه يقوم على تشريع عفوٍ عن الجرائم المالية، إلى الاستهداف الخطير للحريات... هناك تحدٍ لبلورة وضعٍ شعبي يواجه النهج المنظم لخطر إبادة الشعب اللبناني وانحلال الدولة، عنوانه إنهاء الخلل الوطني بموازين القوى!
تواجه هذه المهمة تحديات جدية، إذ لم ترتقِ تجربة «تكتل التغيير» إلى المستوى المطلوب من الشجاعة، في محاكاة تطلعات القوى التشرينية التي أوصلت أعضاء التكتل إلى البرلمان، والذرائع بأن العدد قليل لتبرير الضعف والتهرب من المسؤولية. تاريخ البرلمان يخبرنا أن تأثير البعض، كان أكبر بكثير من حجم كتلهم. يمكن الحديث عن رشيد كرامي وريمون إده وكمال جنبلاط وبيار الجميل، الذين لم يحوزوا أيضاً تصويتاً شعبياً يماثل تكتل التغيير! هذا الوضع ساهم جزئياً في تعميق النزف الذي طال النخب الشبابية بعد ثورة تشرين، بالأخص ما بعد تفجير مرفأ بيروت، وهو نزف يعادل هجرة النخب، في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية بين الأعوام 1975 و1977، وما تركته من تداعيات سلبية! السؤال - التحدي، كيف يمكن استنباط الوسائل والأدوات لجبه مخطط الإبادة والدفاع عن حقوق اللبنانيين ومصالحهم!