بقلم - حنا صالح
انتهى، وربما إلى غير رجعة، زمن التغني بشعار «نيال اللي عنده مرقد عنزة في لبنان». دون مبالغة تحوَّل البلد إلى ملاذٍ آمن لأنواع من المطلوبين والفارّين من وجه العدالة!
استأثر زعماء ميليشيات الحرب والمال بالسلطة، تحت رعاية احتلال النظام السوري، وتشاركوا سرير الحكم والمحاصصة مع «حزب الله»، بعدما أنجزت «انتفاضة الاستقلال» في العام 2005، خروج الجيش السوري. تسلطوا، مافيا سياسية مصرفية ميليشياوية، متكئين على أبرز إنجازاتهم: قانون العفو عن جرائم الحرب، ونظام الحصانات، وقانون الإفلات من العقاب. استمروا وتناسلوا التسلط، ومَن غيّبه الموت خلفه نجله أو صهر مدلل. وعلى مدى ثلاثة عقود ونيّف، كانوا في كل ممارساتهم فوق القانون وفوق المحاسبة وفوق القضاء. ووفق قولٍ مأثور للرئيس الأزلي للبرلمان، فإن القضاء للضعفاء!
أمعنوا في استغلال السلطة وتغليب المصالح الخاصة والاستهتار بالشأن العام. وفّر لهم نظام المحاصصة الطائفي والغنائمي مولد الفساد وحامي الفاسدين، المكاسب، فتشاركوا السياسات التي غطت نهب المال العام، وسطت على ودائع تفوق الـ120 مليار دولار، فانهارت الليرة التي خسرت أكثر من 95 في المائة من قيمتها، وبات نحو 83 في المائة من اللبنانيين على خط الفقر وتحته. صحّروا البلد الذي خسر فائض قيمته: التعليم. وانهار الاستشفاء وكل الخدمات، وحوّلوا لبنان إلى رصيف هجرة ففقد نخبه الشابة. ويسجل لهم أن الكارتل المصرفي، وقد وصفته تحقيقات أوروبية موثقة بأنه «عصابة أشرار»، نفّذ السطو على ودائع المصارف!
تمكنوا من تجميد التحقيق في جريمة تفجير المرفأ وبيروت، وأمّنوا الحمايات لفارّين من العدالة؛ من سياسيين وقضاة وكبار الأمنيين المدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، منعوا تنفيذ مذكرات الجلب والتوقيف، وادعوا على قاضي التحقيق (..)، وعلى الكثير من أهالي الضحايا، وأُعيد انتخاب مدعى عليهم أعضاء في البرلمان ليتصدروا أبرز اللجان البرلمانية! وبقي التحقيق فارغاً، في كل الجرائم المتصلة بجريمة العصر: قتل ضابطي الجمارك المتقاعدين سكاف وأبو رجيلي، والمصور بجاني، والناشط السياسي لقمان سليم. وحتى إثبات العكس فإن منظومة النيترات مطمئنة لتعطيل التحقيق؛ لأنه، كما يشاع، حدثت مقايضة قضت بالتغاضي الخارجي مقابل إنجاز ترسيم بحري مع إسرائيل انتهك سيادة لبنان وحقوقه!
ويستمر الفريق المتسلط في أدائه لإعادة تأهيل نظام المحاصصة المقيت، غير عابىءٍ بتلاحق الانهيارات ويستثمر في الشغور الرئاسي والفراغ في السلطة، وتتتالى خطوات انتهاك الحقوق الطبيعية للمواطنين، لمحاصرتهم بالبحث عن حبة دواء، ورغيف خبز ليس أكثر. ومع السقوط الأخلاقي للمنظومة يصبح طبيعياً، أثناء التحقيق بحضور قضاة أوروبيين، أن يولي القاضي اللبناني الأولوية لتأمين منفضة سجائر يقدمها لرياض سلامة، الذي طلب تدخين السيغار، بعدما استاء من أسئلة قاضية التحقيق الفرنسية. غير أن التطورات، بدءاً من السادس من الجاري، قلبت المشهد. لم تحسب الطبقة السياسية جيداً حساب استقلالية القضاء في أوروبا، فحملت خطوات القضاء الفرنسي بداية قد تُخلخل هيكل الحصانات والحمايات!
يوم 6 أبريل هبطت في باريس طائرة قادمة من لندن، على بابها تم توقيف «البنكرجي» مروان خير الدين، مدير عام بنك الموارد والوزير السابق والمرشح الفاشل للنيابة على لائحة «الثنائي المذهبي» في دائرة الجنوب الثالثة. صودر جواز سفره، ووُضع تحت رقابة قضائية، بعدما اتهم بـ«تآمر جنائي» والمشاركة بتشكيل «عصابة أشرار»؛ بهدف «اختلاس أموالٍ عامة من قِبل موظفٍ عمومي (المقصود رياض سلامة)، على حساب الدولة اللبنانية، وخيانة الأمانة، والرشوة، وتبييض الأموال». وطيلة أسبوعين، عمل خير الدين للدخول في «ديل»؛ بهدف الحصول على «وضعٍ خاص» لا يلغي الاتهامات، بل يخفف العقوبة، مقابل معلومات عن سلامة وعلاقاته بالمنظومة المصرفية والسياسية، التي كانت الهندسات المالية والفوائد المرتفعة المصدر الأول لثرواتها، على حساب المال العام والمودعين، إلى معلومات عن «بنكرجية» وساسة وردت أسماؤهم في التحقيقات الأوروبية. أراد خير الدين استبعاد عقوبة السجن، فيما الغرامات المالية لا تعني له شيئاً، فاستعاد جواز سفره، وسدَّد كفالة مالية، وتعهَّد بالمثول أمام القضاء عندما يُستدعى؛ لأنه في دائرة الاتهام مشتبَه به ليس بريئاً، بل متعاون مع التحقيق، وعاد إلى بيروت.
كان ينبغي أن يكون القضاء اللبناني بانتظاره؛ لاقتياده إلى التحقيق في الاتهامات المعلنة، وأبرزها تمكين موظفٍ عمومي؛ هو حاكم المصرف المركزي، من اختلاس مال لبناني عام، لكن القضاء تغيَّب عن القيام بواجبه، وحضرت عراضة شعبية وفُتِح له صالون الشرف في مظهرٍ مقزز! واللافت أن الجهات القضائية، التي التزمت، منذ ثورة تشرين، خطاً تصاعدياً في الدفاع عن الكارتل السياسي المصرفي في تحدٍّ لأصحاب الحقوق، تجاهلت أبعاد التسريب المقصود، الذي عممته «رويترز»، من أن القضاء الفرنسي أبلغ رياض سلامة «اعتزام توجيه الاتهامات إليه والادعاء عليه بالتزوير وتبييض الأموال»، استناداً إلى ثبوت «تزوير كشوفات حسابات مصرفية لإخفاء ثروته»! هنا كان دور خير الدين، الذي صدرت عن مصرفه الكشوفات المزوَّرة، والتي تحمل توقيعه، وقد رفعت ثروة سلامة في مصرفه 20 ضِعفاً، ليتأكد المحققون أن الأموال العامة هي مصدر الجزء الأكبر من هذه الثروة!
حتى تاريخه، سلامة في موقعه على رأس مصرف لبنان، وبين يديه سلاح استكمال الإبادة، وتحويل لبنان إلى مسلخٍ بشري، ينعم بالحماية على مدار الساعة، مثله مثل الكارتل المصرفي الذي صادر القضاء عشرات الدعاوى ضد أركانه! ويعج البلد بالمطلوبين والفارّين من وجه العدالة، بدءاً من كارلوس غصن، الذي تم تهريبه في صندوق من اليابان، وامتنعت بيروت عن تسليمه للقضاء الفرنسي، إلى الآخرين المطلوبين المدعى عليهم بالجناية في جريمة تفجير المرفأ. كذلك مثل المحكوم عليهم في جريمة قتل الرئيس السابق رفيق الحريري، وقد رفعهم «حزب الله» المتسلط إلى مرتبة القداسة!
للكاتب المصري الساخر إبراهيم المويلحي قول ينطبق على الوضع الذي يريدون أن يصبح لبنان عليه: «مكان يزار لا مكان يسكن كدار»! وبالفعل منذ انفجار المنهبة، كانت الحلول موجودة ويمكن تفادي الكارثة، لكن التحالف المافياوي الذي أقلقته المساءلة، كما سقوط مشروع الاقتلاع والاستتباع، اختار الخراب واستثمر في البؤس وعمد إلى سياسة شراء الوقت فبدَّد أكثر من 30 مليار دولار هي ودائع للناس وظّفها في مخطط ترسيخ تسلطه، عاونه، في هذا المنحى، كل الآخرين؛ شركائه في نظام المحاصصة، فأرسلوا لبنان إلى الجحيم نتيجة تدمير مقومات الاقتصاد والمجتمع، عندما حمّلوا، متضامنين، المسروقين كلفة المسروق! وحوّلوا لبنان إلى مرتعٍ لمحكومين ومطلوبين وفارّين من وجه العدالة! والخطير أن الأمراض المتأتية عن حربهم على اللبنانيين حملت تشوهات وإبادة بشرية ليس سهلاً علاجها وتجاوزها!