مرض نفسي خطير اسمه «هزيمة 67»

مرض نفسي خطير اسمه «هزيمة 67»

مرض نفسي خطير اسمه «هزيمة 67»

 العرب اليوم -

مرض نفسي خطير اسمه «هزيمة 67»

بقلم - ممدوح المهيني

يستجدي أهل غزة لوقف الحرب المدمرة وهناك من هم خارجها لم تتلطخ ملابسهم الأنيقة بالدم، ويقضون أوقاتهم على الشواطئ المشمسة، يصفونهم بالخونة والعملاء. ويطالب المتحدث باسم الحوثيين الطلاب المحتجين في الجامعات العريقة في كولومبيا وكاليفورنيا بتركها والدراسة في جامعة صنعاء. وفي الوقت الذي يغرق اليمن في حرب أهلية يغرد ابن الزنداني أنه رأى في المنام أن الرسول، عليه السلام، يسلم راية لأبيه وراية لعبد الله عزام ويدخلهما بنفسه إلى الجنة.

كل هذا وغيره مما نشهده يومياً من اتهامات ومزايدات وخرافات ذكرني بكتاب المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي: «المرض بالغرب... التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي». يقول الكاتب إن هذه ليست فقط أعراض إشكاليات فكرية، ولكن أيضاً أعراض أزمات نفسية. ويضع يده على الأسباب العميقة في التاريخ.

ما هو أكبر أعراض هذا الوباء النفسي؟

إنه الارتداد إلى الماضي والانعزال التام عن الواقع لدرجة خلق عوالم موازية قائمة على الأمنيات والخرافات. ما هي العقدة التي تسببت بمثل هذه الردة الجماعية؟ إنها هزيمة «حرب 67». هذا هو المحور الأساسي الذي ينطلق منه المؤلف. لقد تم إيجاد مبررات كثيرة ظاهرياً لهذه الهزيمة القاسية، لكن كان تأثيرها مدمراً على مستوى اللاشعور الذي يعدُّ «الخزان الهائل للتأثيم ولتوليد الشعور بالذنب».

ويفرق منذ البداية بين الصدمة والرضة. الصدمة لها تأثير إيجابي لأنها «تستنفر الوعي وتشحذه» وتكشف واقعه المتأخر وتحفزه على التغيير. وهذا يشبه ما حدث في الحملة الفرنسية (يسميها الصدمة النابوليونية) التي صدمت الوعي العربي على واقعه المتأخر، الأمر الذي دفعه إلى التحرك والتغير، والصدمة لا تحدث إلا مع الاعتراف والمكاشفة مع الذات.

يختلف هذا الأمر عن الرضة التي مثلتها «حرب 67»... فهي لم تتحول إلى صدمة تكشف الواقع، بل فتحت الأبواب الخلفية للهروب إلى الماضي. ويحلل الكاتب هذه الظاهرة الثقافية نفسياً. يقول: «إذا كانت شحنة الصدمة من التنبيه فوق احتمال جسم المتلقي، وغير قابلة للدمج والتوظيف فيما نسميه بعملية الأيض النفسي، كان لها مفعول عكسي: فبدلاً من أن تطلق في الجسم آليات الدفاع السوي والتكيف الواعي من خلال تعرف الواقع ومواجهته، تطلق فيه على العكس الآليات الشعورية للدفاع المرضي».

ولكن لماذا أتت «حرب 67» على هيئة «الرضة» المرضية؟

هذه الرضة التي جعلت الثقافة العربية تكره الواقع، وترفض الاعتراف به، تهرب إلى الماضي في حركة جماعية انتحارية بحثاً عن الأمان في أحضان اللامعقول والخرافة والانفصام عن الواقع. تلك الهزيمة كانت غير متوقعة، وهكذا تحدث الرضّات المؤثرة للأشخاص الذين يبالغون بالثقة في أنفسهم لتأتي الهزيمة صادمةً لغرورهم وأوهامهم. كما أن هذه الهزيمة التي تمت في 6 أيام فقط لم تكن قابلةً للتصريف والتغطية، إضافة إلى أن الجرح المفتوح منذ تلك الهزيمة لم يتخثر بسبب التفوق الإسرائيلي المستمر.

ويشرح طرابيشي بطريقة خلاقة الفجيعة الكبيرة التي مثلها رحيل الزعيم المصري عبد الناصر الذي لعب دور الأب الرمزي للجماهير العربية ومات حزيناً بتأثير هذه الحرب، وكيف تم بعد ذلك الانقلاب عليه والتمثيل به، الأمر الذي يفسره مؤلف الكتاب: «هناك مستوى شعوري يرفض الهزيمة، ولكن اللاشعور لا يسايره في لعبته ولا ينخدع بخداعه. ومن منظوره ليس ثمة ظرف تخفيفي يسوغ الإعفاء من المسؤولية».

هذه الضربة الموجعة وغير القابلة للتصديق والتصريف تم تحويل اسمها إلى «نكبة» تخفيفاً من جارحيتها للشعور، ولكنها في الحقيقة تشكلت كعقدة نفسية ليس فقط تجاه إسرائيل (التي توصف دائماً بربيبة الغرب تقليلاً من أهميتها) ولكن تجاه الحضارة الغربية بأسرها. ويستشهد المؤلف بعدد كبير من المواقف التي سجلها الكتّاب من مختلف التيارات في ندوات أو مقالات أو كتب، وتكشف عن هذه العلة المرضية التي تدفع للاحتماء بالماضي، والاستقالة من عالم التنافس الحضاري الذي تخوضه أمم العالم.

إن هذا المرض النفسي الذي يصيبنا جميعاً يتمثل بأوجه متعددة. ويعدد طرابيشي أعراضاً كثيرةً له جميعها تمثل صدمة للقارئ الذي يشعر بأن المؤلف يقوم بتحليله شخصياً، وينجح في كل مرة بلمس النقاط الصحيحة الحساسة التي لا نريد الاعتراف بها. من هذه التحليلات المثيرة الاعتقاد بأن الواقع مصنوعٌ بقوة سحرية مجهولة، وكذلك تضييع حدود الأنا بحثاً عن عظمة مفقودة من خلال التوحد مع الجماعة، وتصور طفولي للعالم يرى في الماضي الأب الحامي للعائلة. كما يسرد المؤلف أيضاً قائمةً متعددةً أخرى من أعراض هذا المرض النفسي الجماعي الخطير.

إن هذا الكتاب المهم يتميز بمعالجة أسباب التراجع الحضاري العربي والإسلامي، ولكن من زاوية جديدة وهي زاوية التحليل النفسي. هذا الكتاب لا يكشفنا على مستوى العقل فقط، ولكن على مستوى النفس. إنه لا يجعلنا نكشف الآليات الفكرية التي تجعلنا نتراجع، ولكن أيضاً يكشف لنا عن الدوافع النفسية المظلمة المحفزة لمثل هذه الأفكار.

طرابيشي في جميع مؤلفاته تقريباً صادمٌ وجارحٌ، وينزع كل الضمادات ويحارب كل الأدوية المزيفة. إنه لا يساوم أبداً، وكثيراً ما قام بالرد على أفكار بدت جميلة، ولكنه كشف لنا عن تأثيرها الباطني الحقيقي الذي يدعم التطرف والتأخر. هو يقوم بمثل هذه الصدمات الفكرية ويدافع عن التقدم والعقل والتسامح والواقعية، وهذه هي القضية التي كانت تشغل روحه المضيئة والخيّرة.

في هذا الكتاب أضاف المفكر جورج طرابيشي الصدمات النفسية للصدمات الفكرية، ولعب دور المحلل النفسي الذي يشرح لمريضه كيف يمكن تخليصه من أفكاره التي تسحبه إلى الأسفل. في الواقع إن المفكر والطبيب النفسي الثقافي طرابيشي من النوع النبيل، فقد عمل عقوداً على صعق هذا الجسد المريض، ولم يفقد الأمل بأن تعود إليه الحياة يوماً ما.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مرض نفسي خطير اسمه «هزيمة 67» مرض نفسي خطير اسمه «هزيمة 67»



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
 العرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما
 العرب اليوم - رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات
 العرب اليوم - المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab