بقلم - ممدوح المهيني
حاول كيفن مكارثي، رئيس مجلس النواب الأميركي المعزول، أن يسير على الحبال المشدودة، وأن يرضي كل الأطراف، ولكن انزلقت قدماه بعد 9 أشهر فقط. مكارثي وجد حزباً جمهورياً منقسماً على نفسه ومختلفاً بعد صعود ظاهرة جديدة اسمها (ترمب) غيّرت قواعد اللعبة القديمة. لعب مكارثي دور جامع المتناقضات ورجل التسويات، ولكنه ذهب ضحيتها.
أراد مكارثي أن يجمع بين مبادئه ومصالحه. عارض أن يظهر الرئيس الأوكراني زيلينسكي ليلقي خطاباً أمام الكونغرس حتى لا يُغضب معارضي الدعم الأميركي لأوكرانيا داخل حزبه، ولكن خلف الأبواب وفي اجتماع مع زيلينسكي أظهر دعمه الراسخ له وعبّر عن قناعاته الحقيقية وشبّه بوتين بهتلر، والجيش الروسي بالرايخ النازي، والغزو الروسي لأوكرانيا بالغزو الألماني لبولندا، الذي كان الإعلان الرسمي لاندلاع الحرب العالمية الثانية.
وبعد اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني)، انتقد مكارثي ترمب والجماهير الغاضبة التي تسير خلفه ولم يناصر دعواه عن سرقة الانتخابات، ولكنه اضطر لاحقاً للسفر إلى فلوريدا ليحصل على دعمه ومباركته ليكون زعيم الجمهوريين، ويحاول أن يجمع شتاتهم بعد صراعات عميقة. أراد أن يرضي الجمهوريين التقليديين ولا يغضب ترمب وفشلت المحاولة، فشتائم ترمب لكبيرهم ميتش ماكونيل لم تتوقف، ويهزأ بزوجته ويذكر بأصلها الصيني ويسميها كوكو تشاو! عقد مكارثي صفقة مع الشعبويين بهدف إصلاح حزبه، ولكنه وضع حبل المشنقة في أيديهم.
إدارة هذه التناقضات في ظروف طبيعية قد تكون مهارة سياسية، ولكن في ظل انقسامات حادة تعد وصفة انتحارية وهذا ما حدث. تعرض للخيانات المتكررة من ترمب الذي تخلى عنه وهو يرى مات غايتس عضو الكونغرس اليميني الشعبوي الشاب بعمر الـ41 يحرجه بعد 15 جولة تصويت قبل الموافقة على تعيينه، وبعد أشهر معدودة قام بإذلاله والإطاحة به. الخيانة الأخرى من بيلوسي التي قدمت له نصيحة مسمومة عندما طمأنته أن يمنح معارضيه حق إجراء التصويت على إزاحته عبر شخص واحد فقط، مؤكدة أن الديمقراطيين سيقفون معه ولن يصطفوا مع خصومهم لعزله، وهذا ما فعلوه مع أسلافه الجمهوريين. لم يلتزموا بوعدهم وشاهدوه وهو يغرق رغم اتفاقه معهم على الوصول لتسوية وإبقاء الحكومة مفتوحة، وهو ما أغضب المتطرفين في حزبه. لا يوجد شيء شخصي معه، كان هدفهم الأكبر إظهار الحزب الجمهوري منقسماً، ويعيش حرباً أهلية، وهذه دعاية شعبية سيئة لهم في انتخابات قريبة.
كل هذه التناقضات والصراعات والخيانات والصفقات السرية والوعود المنكوثة جزء طبيعي في العمل السياسي الحزبي في الديمقراطيات الغربية. ومكارثي رغم خبرته السياسية الكبيرة ولعبه أدواراً متناقضة واضطلاعه بشخصية حلّال المشاكل، فإنه دفع في النهاية ثمنها وخسر منصبه، ولكن في الطريق وهو خارج لم يتردد، كأي سياسي متمرس، أن يقف أمام الصحافيين ويلقي خطاباً شبيهاً بخطاب بداية الحملات الرئاسية ويذكر بطفولته الصعبة وشخصيته الصلبة الطموحة وإيمانه بأميركا، لأنه يريد أن يستفيد من هذه اللحظة للظهور بمظهر الرجل الذي ضحّى بمنصبه من أجل وطنه.
ولكن بعيداً عن كل هذه الدراما المثيرة. كيف نقرأ تأثير خروج مكارثي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية؟
مكارثي يعد من الجمهوريين الكلاسيكيين المعتدلين المؤمنين بدور أميركا في العالم، ولهذا هو أحد المؤيدين لخطة بايدن لدعم أوكرانيا في السلاح رغم تراجع معدلات دعمها في الحزب الجمهوري. في المقابل صعود الشعبويين الانعزاليين الذين يطالبون بوقف الدعم وصرف الأموال داخلياً على الحدود ودعم الاقتصاد، يعارض الدور الأميركي العالمي، ويطالب بسحب القوات من كل مكان والعودة للداخل الأهم. ترمب يستخدم هذا الخطاب القومي لتلميع صورته أملاً في أن يعيده للبيت الأبيض. هذا الخطاب الانعزالي أكسب شعبية واسعة لأوباما الذي طالب ببناء الداخل وليس الديمقراطيات في الخارج، ومن ثم مع شعار أميركا أولاً، والآن أصحاب الألسن الطويلة، ومن بينهم ماسك الذي سخر من الرئيس زيلينسكي قبل أيام.
مكارثي يتصرف بوصفه رجل دولة، وعلاقته مع المؤسسة الدفاعية والأمنية قوية، وهذا ما يراه ترمب وأنصاره خطيئة؛ لأن خطابهم قائم على العداء مع واشنطن المؤسسة وهدفهم تنظيفها من المستنقعات. عزله يعني هزيمة الخط المعتدل بين الجمهوريين وفوز الشعبويين. وسيضعف ذلك من أنصار السياسة الخارجية الأميركية التدخلية التي شكلت صورة العالم الذي نعيشه.
وحتى المؤمنين بهذا الموقف التقليدي سيخافون مع تزايد قوة الانعزاليين، ورأينا سلف مكارثي المرجح يتحدث عن نيته معارضة دعم أوكرانيا؛ لأنه يريد أن يكسب رضاهم أو يتقي شرورهم. ومع تراجع أنصار النهج الكلاسيكي الذي يمثل بايدن أكبر رموزه وصعود الانعزاليين الساخطين، سيؤثر ذلك على صورة العالم التي اعتدنا عليها وعشنا تحت مظلتها لعقود طويلة.