بقلم - ممدوح المهيني
روّج إيلون ماسك أن «تويتر» (منصة «إكس») هي الصحافة الحقيقية، وستقضي على وسائل الإعلام المعروفة، وستخدم البشرية قاطبة، وتنقذها من الخداع والتزييف. وبعد خروج تكر كارلسون نجم قناة «فوكس نيوز» عَثَر على الشخص الذي يجسد له هذه النظرية.
ولكن كل ما يفعله يؤكد مرة بعد أخرى لماذا حديثه غير صحيح، ولماذا نحتاج إلى وسائل إعلام حقيقية أكثر من أي وقت آخر. ولأن ماسك عبقري وخلاق ومخترع فريد من نوعه، ولكنه جاهل في الإعلام، اعتقد أن نبش الحثالة من القاع وعرضها صحافة حقيقية يجب أن يعرفها ملايين البشر.
ومثال على هذا الانحدار هو بثه يوم أمس مقابلة مع شخص ومدمن مخدرات قال إنه تعاطى الكوكايين مع الرئيس السابق باراك أوباما، وأقام معه علاقة جنسية. هذا تجسيد للإعلام الرخيص الذي تريد أن تشيح بوجهك إذا شاهدته بالصدفة، لأنه قائم على الابتذال والفضائح والنميمة والمؤامرات، وهو نمط موجود منذ وقت طويل في الصحافة الصفراء التي يقودها معتوهون ومرتزقة، وله جمهوره الباحث عن التفريغ النفسي والعزاء الشخصي في الأكاذيب وفضائح المشاهير والناجحين.
وفي الولايات المتحدة، تشاهد منصات عديدة تروّج لنظريات المؤامرة، بعضها يتبنى خطاباً عنصرياً، وقد شاهدت قبل فترة شخصاً عنصرياً لا يزال يؤمن بتفوق البيض وآخر معادياً للمسلمين واليهود، وكذلك مَن يتحدثون عن فضائح وعلاقات جنسية وتعاطي مخدرات. نوع من صحافة «التابلويد» الوضيعة على الدوام كان موجوداً، ولكن ما فعله ماسك هو تبنيها ونقلها على منصة مشهورة وعبر مذيع معروف، وهو يتفاخر بذلك ويعتقد أنه يقدم صحافة حقيقية.
وهذا أيضاً ما يؤمن به كارلسون الغارق بنظريات المؤامرة، ونفهم الآن أكثر لماذا أبعدته قناة «فوكس نيوز»؛ فرغم أنها محطة دعائية، فإن هناك معايير صحافية لا يمكن أن تتجاهلها، ويبدو أنها عجزت عن لجمه وتحمله، وأخرجته مع الباب مع أول فرصة سانحة. كارلسون مهووس بمثل هذه القصص الفضائحية، ومؤمن بأن اللقاح خدعة لجني الأرباح، وبأن هناك يداً سعودية خلف أحداث 11 سبتمبر، وغيرها من الأفكار المخبولة.
وهذا ما لا تعمله وسائل الإعلام التي مهما بلغت الخلافات السياسية والشخصية، فإنها لا تنزل إلى هذا الحضيض. الإعلام الحقيقي يعتمد على المصادر المؤكدة، ويراجع المعلومات قبل عرضها، ويبتعد عن الفضائح الشخصية، ويتجاهل المؤامرات التي تُردَّد في المجالس والمقاهي دون توثيق، ويذهب الصحافيون لأماكن بعيدة وخطيرة للتأكد من القضية قبل كشفها وعرضها للمشاهدين والقراء، ولا يسمحون لمدمني المخدرات والمختلين بالظهور ونشر أكاذيبهم على ملايين الناس، لأنهم يمنحونهم مصداقية لا يستحقونها، أي أن هناك عملية واضحة من التحقق والمراجعة والتزام المعايير المهنية، وهذا ما يجعلها مختلفة عن منصات التواصل الاجتماعي والمؤثرين فيها التي تعمل في أوقات كثيرة بطريقة دعائية، ولا تهتم بدقة المعلومات ولا التحقق منها، والمعايير المهنية مشوشة لديها في أحسن الأحوال. وهذا مقبول بشرط ألا تطلق على نفسها صفة صحافة وإعلام، ولكن هذا ما لا يفعله ماسك الذي يرتدي زي الإعلام الحقيقي، ويتصرف مثل الصحافة الصفراء الرديئة.
ومع هذا يمكن أن نجد عذراً واحداً لماسك، وهو أنه ينطلق من نزعة ثأرية وردة فعل على الطريقة التي تعاملت بها معه وسائل إعلام كبيرة تختلف مع أفكاره الثقافية وتوجهاته السياسية، وشنّت عليه حملة غير عادلة، ويمكن القول إنها - جزئياً - جعلت منه شخصاً غاضباً ولا يثق بها. وليس هو الوحيد الذي واجه منها هذا الحيف، بل انزلق الإعلام في اللعبة الاستقطابية والحزبية، وجزء من صعود إعلام الفضائح واكتسابه مصداقية هو تراجع الإعلام الحقيقي عن دوره، وهذا جزء من المشكلة الأساسية، ولكن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً. هناك فرق بين وسائل التواصل وما يُنشر فيها (التي تنزلق في لعبة الفضائح والدعاية الرخيصة) ووسائل إعلام حقيقية تسعى لنقل المعلومات الدقيقة قدر الإمكان، ولكنها لن تقوم بأي حال من الأحوال بوضع مدمن مخدرات أمام الملايين، وجعله يروي حكاياته عن نومه مع رئيس أميركي في غرفة مظلمة بفندق رخيص.