بقلم - ممدوح المهيني
هذا ما قام به محامون عراقيون، مع أن الحاكم الثاني للدولة الأموية ميت منذ أكثر من 1340 عاماً. لماذا؟ بالنسبة إليهم، طلباً للشهرة والإثارة، والسبب الثاني من أجل تغذية التعصب الطائفي، وكأننا بحاجة إلى مزيد من المتعصبين ودعاة الكراهية، فالمنطقة مكتظة بهم، وأصبحت تصدرهم للخارج.
الواقع أن هذه الدعوى القضائية المتخيلة فرصة لنلقي الضوء على ثلاث إشكاليات تجعلنا نفكر فيها بشكل مختلف.
أولاً، استحضار الماضي البعيد للحاضر وكأن الزمن لم يتحرك؛ حيث حُولت التقنية التي تُعد من منتجات ومفاخر العصر الحديث إلى أداة لإعادة الحياة للأساطير والخرافات والأفكار والثارات القديمة؛ حيث تعج منصة مثل «يوتيوب» بمحاضرات وخطب تسترجع الماضي، وتغذي الخلافات والصراعات، وتعيد إنتاج المعارك، مع مؤثرات مرئية وصوتية، وكأنها حدثت بالأمس. يكفي أن تأخذ جولة عليها لتخرج منها متعصباً كارهاً لأديان وطوائف ونحل، ومُخرجها من دائرة الإيمان.
من الأفضل حجب هذه المقاطع التي تحقق ملايين المشاهدات، وسيعترض أحد بالقول إنها حرية تعبير، وربما هذا صحيح، ولكن تأثيراتها مدمرة وخطيرة. إنها تشحن صغار السن وتعبئهم بالكراهية، ومن دون أن يتلقوا تعليماً قوياً نقدياً يحميهم من هذه الأفكار، من السهولة أن يتم اختطافهم فكرياً ونفسياً في وقت حرج، هو وقت تشكيل الهوية والبحث عن القيمة الذاتية.
ثانياً، الحجب ليس حلاً عملياً دائماً، وقد يكون مؤقتاً وأسلوباً قديماً، ويدخلنا في جدل طويل: ماذا يُحجب وماذا يُترك، فمن يبحث عن دعاة الأفكار المتطرفة سيجدهم. هذا صحيح، وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية، وهي أنه من دون وعي وفهم للماضي والقراءة التاريخية له، سوف نعيد تكراره وسنطوّع كل منتجات الحداثة لتثبيته، وسترى مراهقين ينتحبون ويصفعون وجوههم، مسترجعين أحداثاً وقعت قبل 1400 سنة.
القراءة التاريخية والنقدية ستزيل القداسة عن شخصيات الماضي وأحداثه، وستجعلك ترى الماضي بصورة أقرب للحقيقة، وتفهم صراعات المصالح السياسية والطموحات الشخصية التي تحرك سلوك البشر. وكما نعرف، فإن كتب التاريخ القديمة مدونة بعد وقت طويل من وقوع الأحداث الكبرى، وتعرضت للإضافة والحذف والتعديل، ولعبت خيالات المؤلفين دوراً كبيراً فيها؛ لأن فكرة الموضوعية التاريخية والمنهج العلمي فكرة حديثة ولم تُعرف سابقاً كما الآن. المهم أن إزالة كل طبقات التقديس عن الشخصيات التاريخية وفهم أهميتها وأدوارها المحورية وجوانبها المضيئة والمظلمة، من دون أن نسكب عليها مشاعر الكراهية العميقة أو الحب المفرط، سيجعل الأفراد أكثر واقعية وعقلانية، ويعيد لهم الإيمان الحقيقي العقلاني المستنير المرتبط بالله وليس البشر؛ سواء كانوا حقيقيين أو من خيال كتّاب التاريخ.
هذا يقودنا إلى الفكرة الثالثة، وهي من دون أن نقوم بمثل هذه القراءة والفهم الواقعي للماضي، فإن النزاعات والخلافات الطائفية ستظل دائماً موجودة، وستنتظر فقط شخصاً مهووساً متعصباً أو باحثاً عن الشهرة وملايين المشاهدات ليشعل عود الثقاب. ولهذا فإن الإشكالية هي بين المسلمين أنفسهم وتاريخهم وتراثهم، وليس مع الآخرين كما يتم الترويج له. الكراهية الطائفية المتبادلة والقابلة للاشتعال حلها الوحيد هو ترسيخ الفكر المنطقي في العقول، والتسامح في القلوب، والإيمان بالنزعة الإنسانية الجامعة والوطنية بين أبناء البلد الواحد، وكل هذه الينابيع الصافية والأفكار العظيمة موجودة في الدين الإسلامي، ولكن بحاجة إلى أن تسود، وتكون الرواية السائدة المنتصرة.
وكما نعرف فإن الأديان الكبرى تضم كل شيء بداخلها، وتُقرأ حسبما يستخرجه منه أبناؤها. لكن الحديث عن الآخرين وأنهم هم المتعصبون، وأن هناك حرباً على المسلمين من خارجهم غير صحيح، وهو هروب من المشكلة التي نراها أمامنا واضحة، ولكنها دعاية من المتطرفين الذين يريدون أن يحافظوا على حضورهم ومكاسبهم، مع تأجيج مشاعر الاستهداف والاضطهاد والمؤامرة.
وهناك حالة من التخادم بين المتطرفين من الطوائف المختلفة؛ لأن تطرف أحدهم يخدم الطرف الآخر، والعكس صحيح، وليس من مصلحتهم أن يسود خطاب العقل والتعايش.
وإذا تعلّمنا من تجارب غيرنا، فإن القرون الوسطى الأوروبية كانت عبارة عن صراعات دموية طائفية حصدت الملايين، وحرب الثلاثين عاماً كانت واحدة من مراحلها المظلمة. حدث التغير الكبير بعد أن انتصر الفكر العقلاني، وسادت روح التسامح، وتغلبت العقلية العلمية على الذهنية الطائفية، ونهضت الحضارة التي نرسل أولادنا لها عبر طائراتها ليدرسوا في جامعاتها.
فهمُ هذه الإشكاليات وغيرها سيجعلنا نرى هذه الدعوى القضائية مجرد حادثة غريبة تدعو للسخرية السوداء، ولا تستحق التوقف عندها والكتابة عنها.