بقلم:ممدوح المهيني
لا أتذكر عدد المرات التي شاهدت فيها المشادة الكلامية بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونائبه جي دي فانس مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي. ترمب الخبير بالإثارة التلفزيونية عرف أن ما يحدث سيكون مادة تلفزيونية لا مثيل لها، ولهذا واصل فيها رغم قدرته على إنهاء المواجهة مبكراً، ولكنه استمر في استقبال أسئلة الصحافيين التي أشعلت الموقف. لقد كان محقاً في ذلك. لم تكن فقط مادة تلفزيونية، ولكن مادة للتاريخ.
من الواضح أن زيلينسكي لم يتعلم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الطريقة التي يجب أن يتعامل بها مع ترمب. ماكرون ألقى عليه كثيراً من المديح، ولكنه أيضاً دافع عن موقف فرنسا وأوروبا، وصحّح معلومات ترمب من دون أن يغضبه. ستارمر فعل الشيء ذاته، وتعمّد أن يقدم بكل احترام وأمام الكاميرات مظروف الدعوة من الملك تشارلز لزيارة لندن والالتقاء. كان هذا كل ما يحتاجه ستارمر ليجعل ترمب الشخصية الانطباعية مبتهجاً وودوداً.
وفي اللقاء الذي يوصف الآن بالكارثي، فعلى الرغم من بدايته الجيدة، فإن زيلينسكي قال معلقاً على حديث سابق لترمب إن ما يفصلنا عن أوروبا «المحيط الجميل». وهو يقصد أنهم بعيدون عن المشاكل، وغير مضطرين للإنفاق على الحروب التي لا تعنيهم. قال زيلينسكي لترمب مستخدماً كلامه ضده: «خلال الحرب الكل لديه مشاكل، ولكنكم لا تشعرون بها الآن بسبب المحيط اللطيف، ولكنكم ستشعرون بها بالمستقبل»، واندلعت بعد ذلك المواجهة التي شاهدناها على الشاشات.
السؤال الأهم الآن مَنْ هم الرابحون والخاسرون من هذه المواجهة غير المتوقعة؟
في الواقع الكل خاسر، زيلينسكي وترمب وأوروبا، والرابح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورابح أقل هو النائب جي دي فانس. من الواضح أن زيلينسكي الذي يعيش من ثلاث سنوات ضغوطات رهيبة ويقاوم حتى يحمي بلاده من الالتهام الكامل سيكون أضعف من دون دعم القوة الأكبر في العالم. ومن دون دعم واشنطن له والرئيس بايدن له من الصعب تخيل أن يستمر في الصمود.
الخاسر الآخر هو ترمب والولايات المتحدة بشكل عام. القوة الأميركية تضخمت بعد الحرب العالمية الثانية بسبب التحالفات القوية، ولا يمكن لأميركا أن تخوض الحروب الكبيرة على جبهات متعددة وحدها، والاستراتيجية العسكرية الأميركية تقضي بأن تخوض حربين كبيرتين بالوقت ذاته. ولهذا يعد الاستثمار في دعم الحلفاء عسكرياً وسياسياً هو استثمار طويل الأجل، ويضعف أعداء الولايات المتحدة ويقوي خصومها. تخلي أميركا عن أوكرانيا لا يضعف أوكرانيا وحدها، ولكنه يضعف أميركا مستقبلاً.
الخاسر الثالث هو أوروبا بكل تأكيد. أوروبا الهشة، كما قال ستارمر، ستزداد هشاشة من دون الحليف الأميركي. أوروبا ترى في الغزو الروسي تهديداً محدقاً بها ولنظامها الليبرالي الديمقراطي الذي يسعى الرئيس بوتين إلى الإطاحة به، وهو الذي أعلن أكثر من مرة عن موت النظام الليبرالي. أوروبا ترى دعم أوكرانيا هو دعم لقوّتها في المستقبل. ترمب لا يشاركها هذه الرؤية (ترمب رؤيته للعالم غير مؤدلجة. خليط من النوازع الذاتية والمشاعر والتهديد بالعقوبات)، ولهذا يضعفها أكثر بفرض الضرائب والتهديد بالتخلي عنها أمام الوحش الروسي في وقت حساس، ولهذا تهرع إلى البيت الأبيض.
الرابح الأكبر من كل هذا هو بوتين. أضعف أوكرانيا وأضعف أوروبا وأضعف أميركا، وأضعف التحالف الغربي، واقترب أكثر من ترمب، وكل هذا من دون أن يقوم بشيء. والرابح الآخر هو جي دي فانس، قد تكون هذه اللحظة التي دافع فيها عن رئيسه الغاضب وهاجم زيلينسكي، هي اللحظة التي تجعل ترمب اقتنع فيها بدعمه ليكون المرشح الجمهوري المقبل للرئاسة.