بقلم : ممدوح المهيني
وصلت إلى دمشق في زيارةٍ أولى في وقت متأخر من الليل في مهمة صحافية. ظلام حالك وصمت مطبق. في الصباح الباكر خرجتُ من باب الفندق وفوجئت بعدد هائل من الناس يمشون على الرصيف. خلقتْ لديَّ هذه الصورة المحفورة بذاكرتي انطباعاً عن السوريين. شعب يضج بالحيوية ومتفجر بالطاقة ومقبل على الحياة. زرت سوريا بعدها مرات كثيرة وقرأت تاريخها والتقيت فيها سوريين كثراً، وأثبت أن ذلك الانطباع الأول هو الصحيح ولم يتغير حتى هذا اليوم. رغم سطوة النظام البوليسي فإنه لم يستطع أن يشوّه جوهر الإنسان السوري ومعدنه.
ولكن كان ذلك قبل وقت طويل، قبل أن تعيث الميليشيات الأجنبية في هذا البلد الجميل خراباً، وقبل أن يُقسَّم ويصبح تحت الوصاية الإيرانية والروسية والميليشيات الطائفية. وقبل أن تحدث المجازر المرعبة التي ارتُكبت بحقهم والغازات الكيميائية التي قتلتهم وهم نيام. وقبل أن تنهمر عليهم البراميل المتفجرة، وقبل أن يهرب الملايين متجاوزين الحدود وينامون في الغابات الأوروبية الباردة، وقبل أن يغرق الطفل السوري آلان كردي على الشاطئ، في لقطة أدمت وأحرجت الضمير الإنساني في كل مكان. لقد تحوَّل البلد إلى كومة من الأنقاض والأحقاد والثارات المريرة. وحتى وقت قريب أيقن الجميع تقريباً أن سوريا التي نعرف ذهبت إلى غير رجعة. ولكن قال التاريخ كلمته، كأنَّ السوريين للتوِّ أفاقوا من كابوس طويل.
والآن مع هروب الرئيس السابق بشار الأسد ونهاية عهده، تطوي البلاد عقوداً من الوحشية الرهيبة، وتفتح سوريا صفحة جديدة في تاريخها وتَلوح أمامها فرصة كبيرة ليستعيد هذا البلد مكانه من جديد. يستحق السوريون بعد هذه المعاناة المريرة والملاحقات والعنصرية المخزية التي واجهوها أن يبنوا بلدهم من جديد بعد معاناة طويلة. وفي تصوري أنهم سيتعلمون من التجارب التي مرت بدول في جوارهم انزلقت فيها إلى الفوضى بسبب هدم مؤسسات الدولة، أو التفرد بالسلطة، أو تغليب النزعة الانتقامية، أو فتح الباب للتدخلات الخارجية. هذه وصفة خراب مؤكدة، ولكن أمام السوريين مرحلة مهمة ليبنوا بلدهم ويُدخلوه القرن الحادي والعشرين بعد أن كان مسجوناً في منتصف القرن الماضي. بلد يزخر بالتاريخ الثري والتنوع الثقافي. بلد منتج للفن والأدب والعلماء. بلد عُرف أهله في التجارة في أصعب الظروف. وكل هذه عوامل مهمة حتى يتوقف السوريون عن النظر إلى الماضي على قسوته لينظروا إلى المستقبل الذي ينتظرهم لبناء اقتصاد بلد ناجح ومزدهر يحتضن كل السوريين على اختلاف مشاربهم. بلد يعكس طاقة ومواهب وحيوية الشعب الذي عرفته للمرة الأولى في تلك الزيارة الليلية الباردة والسعيدة.