بقلم : ممدوح المهيني
بينما ينصّب أحمد الشرع رئيساً لسوريا، يدخل هذا البلد مرحلة جديدة. سوريا التي مرت بسنوات من الانقلابات حتى قيل إن السوريين كانوا يعرفون الانقلابات قبل وقوعها، بسبب النزاعات المستمرة بين رفاق السلاح. ومن ثم دخلت في المرحلة الستالينية على الطريقة الأسدية حتى هروب الابن.
الآن تدشن مرحلة جديدة مملوءة بالتحديات والآمال الكبيرة. أدار الشرع المرحلة السابقة بطريقة حكيمة واقعية. فهم التوازنات الدولية ولم يدخل في صراعات مجانية وحسّن علاقاته بالقوى المؤثرة إقليمياً ودولياً. المهم لم نسمع منه الشعارات المكررة عن الاستعمار والصهيونية والإمبريالية التي كانت تكررها الأنظمة سابقاً، بينما الشعوب جائعة وغارقة في الفقر.
وصلت الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس الشرع لدمشق في اللحظة التاريخية المناسبة. وقت اضمحلال الآيديولوجيات القومية والدينية المتطرفة. لقد تعرضت للإفلاس على مدار عقود من التجارب المتكررة العقيمة. لقد استخدمت المبادئ الدينية والقومية بطريقة متعسفة وحولتها إلى دعاية رخيصة للتمسك بالسلطة وفرض الأمر الواقع بالقوة.
نرى الآن كيف يئن أهالي غزة المحطمون من الحرب المدمرة بعد 15 شهراً من الحرب الإسرائيلية الوحشية المدمرة. لقد دفعوا حرفياً إلى الجحيم لعام ونصف من دون أن يكون لهم يد أو يعرفوا السبب وعادوا إلى النقطة الأولى ولكنهم وجدوا بيوتهم ممسوحة وخلفهم من يهتف بالنصر وهم يحملون الأنقاض ويرممون حياتهم من جديد. وكيف قام بشار الأسد باستهلاك كل مصطلحات العروبة والقومية ليهرب إلى موسكو محملاً بالمليارات، تاركاً خلفه بلاداً ممزقة وفقيرة. وكيف يحاول نعيم قاسم ترميم صورة «حزب الله» المبعثرة بعد مقتل حسن نصر الله والتظاهر بالنصر، مستخدماً مصطلحات المقاومة في وقت يعاني جمهوره من تداعيات الحرب، واللبنانيون يعيشون لحظة الاحتفال باستعادة الدولة من براثن الميليشيات.
من المؤكد أن الشرع يضع بين يديه كتاب التاريخ ويرى تجارب الأمم التي فشلت والتي نجحت وكيف استخدمت قيادات الأساليب الفاشلة في إدارة الحكم وأدخلت بلدانها، رغم كل الثروات التي تمتلكها، في حروب ومجاعات وحصار وتحولت شعوبها إلى مهاجرين يطاردون على الحدود أو فقراء يتوسلون لقمة العيش. حديث ونهج إدارته يؤكدان أنهم فهموا الدرس جيداً وعرفوا المسار الذي يسلكونه رغم محاولات الأصوات المتطرفة الحديث باسمهم واستخدامهم في معارك ليست معاركهم ولا معارك السوريين.
كل التجارب التي استخدمت الآيديولوجيات الدينية والقومية انتهت إلى الفشل. نعيش في زمن مختلف حيث تختلط فيه الشعوب ببعضها وتنتقل رؤوس الأموال حيث الأماكن المستقرة والفرص الواعدة ويتنافس العالم في السياحة والصناعة وبناء أكبر المطارات والاستفادة من آخر مبتكرات الذكاء الاصطناعي. الصراع بين القوى الكبرى ليس لاحتلال أراضٍ أو فرض آيديولوجيات معينة، ولكنه حرب على الثراء، والازدهار الاقتصادي الذي تنبع منه القوة العسكرية والقوة الدبلوماسية.
الآن تقع التنمية على سلم الأولويات، والحكومات الناجحة هي التي تخلق حياة ومستقبلاً ناجحاً لأفرادها. انتهت الحروب الدينية وانقضى عصر الغزاة وماتت تقريباً كل شعارات الموت والتكفير. انقضى عصر «داعش» و«القاعدة» وأسامة بن لادن والبغدادي وبشار الأسد ومعمر القذافي وصدام حسين. مرحلة عقيمة انتهت وأي قائد يريد استعادة هذه الأفكار فمصيره النبذ من المجتمع الدولي والتعثر السياسي والفشل الاقتصادي.
في حديث وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في دافوس اختار الكلمات الصحيحة، وهو يقول إنهم يستلهمون تجربة السعودية برؤية 2030 وسنغافورة. السعودية وسنغافورة تمثلان نموذجين لتحدي العقبات واستغلال الفرص وخلق ثقافة متسامحة تحتضن الجميع من مختلف الجنسيات والأديان وبيئة استثمارية تستقطب كبرى الشركات، والأهم أنهما تجاوزتا كل الآيديولوجيات الميتة، وتفكران في المستقبل فقط. وهذا هو الدرس الأهم الذي يبدو أن الشرع يعرفه جيداً، وهو الدرس الوحيد الذي يساعد سوريا للخروج من النفق الذي علقت فيه لأكثر من خمسة عقود.