كثيرون توقعوا أن عهد بايدن سيكون الفترة الثالثة لأوباما. والواقع أن تصورهم هذا طبيعي، فبايدن رشح نفسه في البداية على هذا الأساس. وبوصفه رجلاً متمرساً بالسياسة، تخلى عن اعتداده بذاته، واجتمع مع فريقه، وقال إنهم بحاجة إلى أن يقدموا أنفسهم بهذه الصورة حتى يعاد انتخابه.
كان بايدن يدرك أهمية شخصية رئيسه السابق الكاريزمية والمؤثرة لدى أنصارهم، وكان بحاجة لدعمه. وعلى الرغم من أن أوباما تجاهله وجرح كبرياءه، وفضَّل عليه هيلاري كلينتون لمواجهة ترمب، الأمر الذي يقال إنه غيَّر العلاقة بين الرجلين المقربين؛ فإنه لم يتردد في طلب المساعدة منه، واستطاع الرجل المسن أن ينتزع منصب الرئاسة، ويستعيد البيت الأبيض للديمقراطيين.
ظِلُّ أوباما كان ملازماً لبايدن في البداية، ولكنه انحسر مع الوقت. وبعد أكثر من 3 أعوام يمكن القول إن بايدن استقل بشخصية مختلفة؛ خصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. وفي الواقع أن الرجلين مختلفان بشكل أساسي، على مستوى العقائد وليس فقط التكتيكات. الرئيس أوباما مؤمن بتعددية الأقطاب، ومتذمر من دور الشرطي الأميركي، وشخصية اعتذارية عن ذنوب أميركا، وخطبته الشهيرة في القاهرة التي بدأ عهده بها، كانت رسالة اعتذار وانسحاب من المنطقة، وهذا الأمر الذي لم ندركه إلا لاحقاً.
وبناء على هذا الإيمان تصرَّف الرئيس أوباما. انسحب من العراق على الرغم من إدراكه أن إيران ستملأ الفراغ. ويقال إن الجنرال بتريوس شرح له خطورة الانسحاب السريع، وحذَّره من هذه الخطوة، وأن هذا ما تريده طهران، فقال له: «أستطيع أن أرى خريطة العراق المعلقة على جدارك!».
وبسبب ارتيابه العميق من الدور الأميركي في المحافظة على النظام الدولي، تراجع عن مواجهة روسيا عندما احتلت القرم، وكانت هذه المقدمة لغزو أوكرانيا بعد سنوات، ونعرف قصة الخط الأحمر التي هدد بها وتراجع عنها. تراجعت العلاقة مع الحلفاء التقليديين وسمَّاهم «الراكبين بالمجان» وعقد الصفقة السرية مع طهران، وطالب بأن تتشارك السعودية وإيران المنطقة.
هكذا كانت طريقة تفكير أوباما ورؤيته للعالم؛ خصوصاً أنه ينتمي لجيل مختلف، ويُعدُّ عملياً خارج المؤسسة السياسية، فقد أتى من خارجها، وسريعاً بزغ نجمه، وأصبح نجماً لامعاً. وقد أسهمت تدخلات إدارة الرئيس بوش في أفغانستان والعراق بتعزيز هذا الإيمان لديه. وهذا عادة ما يحدث بين الرؤساء؛ يذهب الرئيس الجديد في الاتجاه المعاكس لسلفه، ويحاول أن يصحح أخطاءه ويفرض رؤيته وشخصيته.
لو قارنَّا كل ذلك بالرئيس بايدن لوجدنا اختلافاً في العقيدة السياسية والأفعال. الرئيس بايدن الذي ترعرع في أروقة الكونغرس لأكثر من 35 عاماً، مؤمن أصولي بفكرة النظام الليبرالي الذي شكَّلته أميركا، وموقفه القوي من الغزو الروسي لأوكرانيا نابع من هذه العقيدة الصلبة. وبسببها استطاع أن يوحِّد أوروبا المرتعدة، ويوقف أوكرانيا على قدميها بعد أن كادت موسكو تبتلعها. والآن الصواريخ الغربية تضرب الداخل الروسي. ويتجاوز بايدن اللياقة المفترضة بين الرؤساء، فقد تهجم على الرئيس بوتين مراراً، ووصفه بـ«القاتل»، و«الديكتاتور» و«غير المحترم!» في محاولة لتحطيم الصورة المهيبة التي صممها الرئيس الروسي لنفسه.
هذا الإيمان العميق نابع من عقيدته السياسية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يريد أن تعود أشباحها الكئيبة من جديد. وهو يختلف بشكل جذري عن رؤية الرئيس أوباما الذي عاش في مرحلة مختلفة جداً، وكان ناشطاً اجتماعياً في صغره.
علاقة واشنطن بالرياض اضطربت في البداية، ولكن بعد ذلك حدث تحول جذري، وأصبحت العلاقة قوية ووثيقة لدرجة الاقتراب من توقيع اتفاقية دفاعية تاريخية. هل كنا نتوقع أن تحدث هذه الاتفاقية مع الرئيس أوباما؟ على الأرجح لا؛ لأنه كان ينظر للمنطقة والعلاقة مع الحلفاء في الشرق الأوسط نظرة مختلفة عن الرئيس بايدن، المؤمن بأهمية التحالفات التقليدية.
موقف الرئيس بايدن أيضاً من الصين ينسجم مع رؤيته وإيمانه بأهمية الدور الغربي في مواجهة القوة الصينية الصاعدة، ولكن بشكل أكثر حدة من النظرة التصالحية لأوباما، أو حتى من ترمب. انتقد بايدن بكين في بداية عهده، ولم يتغير موقفه منها حتى الآن، فقد هاجمها وعدَّ اقتصادها على حافة الهاوية، وقوتها مبالغاً بها، ومبادرتها الشهيرة «الحزام والطريق» مبادرة ميتة قبل أن تولد. وبالطبع كل هذه مبالغات، ولكن تعكس طريقة تفكيره المختلفة جذرياً عمَّن سبقه.
بايدن شخصية مختلفة عن أوباما، وليس ظِلاً له، كما يحب أن يسخر منه خصومه في محاولة للتقليل من قيمته والإساءة له. وقد أثبت أنه شخصية مستقلة ومختلفة. صحيح أنه يبدو تائهاً ويتلعثم وينسى، ولكنَّ نظرته في السياسة الخارجية ورؤيته لدور أميركا العالمي تتسم بالوضوح والصفاء، تماماً مثل نهار يوم صيفي مشمس.