بقلم: فيصل مكرم *
▪︎لم يسبق لليمن أن تعرضَ للانكسار وشعبه للهوان كما هو اليوم، فحين كان الظلم موجودًا كان هناك من يُقاوم، وحين كان الفساد مُتفشيًا كان ثمة من يكشف بواطنه ويُحارب صوره وأشكاله، وحين كان اليمن إلى زمن قريب يتعرض للأزمات -على كثرتها- كانت هناك أحزاب ورجال دولة ونخب مؤثرة ومؤسسات تتداعى لضبط إيقاعها وتتدارس في أسبابها وتتحاور فيما بينها حول كيفية تجاوزها، أو على الأقل ترحيلها إلى ظروف تكون أقل توترًا، وكان هناك هامش لحرية الصحافة مكّنها من كشف الفساد وفضح الفاسدين ونقد الأخطاء ونقل وجهات النظر المُتباينة والمُتقاطعة لعامة الناس، غير أن الصراع على السلطة والثروة والنفوذ أنهك الدولة اليمنية ليؤول مصيرها إلى ما هي عليه اليوم، حيث بات اليمن يُعاني من طعنات المُتصارعين الدامية على خاصرته، وبعد ثماني سنوات من الحرب والصراع والدمار بات اليمن يئن بأوجاعه، وبات أبناؤه يُصارعون الفقر ويُعانون من الفساد والبطش والتنكيل وغياب العدالة وتدهور وازدواجية التعليم بالإضافة إلى غياب الخدمات الأساسية، وبالتالي فإن هذا البلد الذي كان سعيدًا -ذات زمن لم نشهده- بحاجة إلى معجزة كونية لكي يعود المُتصارعون إلى رشدهم قبل فوات الأوان.
▪︎والحاصل أنه ليس ثمة مؤشرات على حلحلة الأزمة اليمنية رغم كل ما يُقال في أروقة الأمم المُتحدة على لسان المبعوث الخاص باليمن، وما يقال على شاشات الفضائيات ووسائل الإعلام من تصريحات لمسؤولين ودبلوماسيين -عرب وغربيين- عن تقدم (ملحوظ) لجهة التوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية وإنهاء الحرب وتخليص الشعب اليمني من تبعاتها وويلاتها ومآسيها، وكل ما نشهده اليوم هو أن الفرقاء اليمنيين يمضون ببلدهم مُسرعين نحو هاوية سحيقة وتفتيت سريع وحروب داخلية لا مفر منها -إن هم استمرؤوا نهجهم وأعلوا مصالحهم على مصالح وطنهم وشعبهم- في عدن مجلس رئاسي تحت رحمة مجلس انتقالي (انفصالي)، وفي صنعاء قائد وشعب ولا شيء دون ذلك أو قبله أو بعده وَفقًا لتصريحات مُعلنة لقيادي بارز في جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وفي العاصمة السعودية الرياض رئيس مجلس رئاسي بإقامة كاملة يزور بين الفينة والأخرى عاصمته المؤقتة عدن لبضعة أيام بشروط نائبه رئيس المجلس الانتقالي (الانفصالي) ويعبر مع الوفد المرافق بوابة المطار التي يُرفرف عليها علم انفصالي ولا وجود لعلم الدولة -التي يعتبر رئيسها- حتى على مبنى مسكن الضيف المؤقت ومكتبه.
▪︎المشهد العام في اليمن يتحدث عن نفسه، حكومتان في صنعاء وعدن، وثلاثة مجالس رئاسية بثلاثة رؤساء، وبرلمانان، ونظامان مصرفيان متضادان وعملتان، ومفاصل الدولة التي كانت قبل ٢٠١٤ هي اليوم مبعثرة ومطمورة تحت أنقاضها، وهناك جيشان وثلاثة وأربعة جيوش وربما أكثر موزعة على خريطة البلاد، وطرق مُغلقة ومدن مُحاصرة، ومعيشة ضنك، وبؤس بات منحوتًا على وجوه الناس كعلامة فارقة لزمن ما كان ينبغي أن يصبح اليمن وأبناؤه على ما هم عليه اليوم.
والمؤكد وفق كل المُعطيات والتطورات أن النخب وجماعات الحكم في اليمن ليست مُستعدةً لخوض أي مُفاوضات لإخراج البلد من حالة الحرب واللاحرب أو تقديم تنازلات حتمية لحلحلة الملفات المُعقدة تمهد لمرحلة جديدة من بناء الثقة المفقودة تمامًا بين أطراف الصراع التي تتشبث بمصالحها لتُبقي حال البلد على ما هو عليه، وبحيث لا يلوح في الأفق بصيص ضوء في آخر النفق يبعث أملًا بحدوث اختراق على جدار الأزمة، وكأني بهؤلاء القوم ممن استباحوا مُقدّرات البلد وحقوق أبنائه قد لبسوا نواميس الجهل والغي إلى أخمص أقدامهم فلا يكترثون لمصير وطن وشعب ما داموا في مواقع السلطة والثراء، يبغونها عِوجًا لتستقيم أحوالهم غير آبهين بالناس وأحوالهم، وسواء كانوا في صنعاء أو في عدن -أو مقيمين في الرياض- فهم لا يدركون مخاطر أن يصبح اليمن بلدًا منسيًا مُتخمًا بالحروب والمُنازعات الداخلية التي ستقضي على ما تبقى من أمل للنجاة بالبلد، ولا يهمهم صلاح الدولة ولا سمعة وطنهم ومصيره، ويُمارسون كل أشكال الفساد دون رقيب ولا حسيب.
▪︎وفي ضوء التطوّرات الدولية الراهنة والمُتغيّرات الإقليمية يتوجب على أطراف الصراع في اليمن عدم تفويت فرصة الأجواء الدولية المُتاحة الآن لطيّ مُنازعاتهم والتخلي عن تمترسهم وتلبية إرادة شعبهم في السلام والاستقرار والعيش الكريم وإعادة الأمن والأمان إلى بلدهم، فرب فرصة لا تُعوّض، ورب أمل متاح اليوم لن يتكررَ غدًا، ولا بد من نهاية لكل حرب وكل صراع، ويجب ألا تكون نهاية كارثية، فثمة نحو ٣٥ مليون يمني يستحقون حياةً كريمةً فوق تراب وطنهم، ومُستقبلًا أفضل يُشاركون في صياغته، ولا يخضعون لأهواء نخب وجماعات مارقة حوّلت وطنهم إلى حَلْبَة صراع على السلطة والثروة، الداخل فيها مفقود والخارج منها مُشوّه ومُلوّث، وكلاهما بلا وزن ولا قيمة.
* صحافي وكاتب يمني