الجهة السابعة في مخيم جنين

الجهة السابعة في مخيم جنين

الجهة السابعة في مخيم جنين

 العرب اليوم -

الجهة السابعة في مخيم جنين

بقلم: عيسى قراقع

قرأت رواية الجهة السابعة للأسير المحكوم بتسع مؤبدات كميل أبو حنيش، في الوقت الذي أتابع الاقتحام الصهيوني الهمجي لمخيم جنين والذي بدأ فجر 3/7/2023، وارى الدماء والشهداء والتشريد والدمار والموت الذي يملأ الأرصفة، وجدت في نص الرواية نبوءة وعين ثالثة هي عين المعجزة، وإلا كيف تصمد جنين أمام جنون القصف الصهيوني لولا جهتها السابعة، جنين أكثر من جسد وأكثر من مخيم وأكثر من ظل، وهي تتجدد وتتوالد وتبقى في وجه العاصفة ثابتة وواقفة، الشهداء يخرجون من قلب المقبرة، يموتون مرة أخرى ويعودون ثم يموتون ولكنهم لا ينقصون، يزرعون عظامهم في المداخل عبوات ناسفة.

في جنين لا يحدث الموت مرة واحدة، الموت الكثير هو الحياة الكثيرة، وهي حيرة المستعمرين الذين عجزوا عن احتلال جنين عبر مراحل عديدة من الحروب والغزوات والاقتحامات، ليس لأنها تمتلك صواريخاً ودبابات وطائرات وأساطيل بحرية، هناك في المخيم جهة سابعة غير مرئية، مفتاح بيت قديم وبوابات واسعة.

الناس في جنين تقاتل بإمكانيات بسيطة، لكن أحلامهم ثقيلة، لا تتشظى تحت وابل القنابل والإرهاب المنظم، لا تنصهر في المجازر والنيران كما يظن قادة تل أبيب، جنين قلب دولة لا ينطفىء، ومدينة تسكنها ألف مدينة.

يكتب الأسير كميل أبو حنيش عن البعد السابع في الإنسان الثائر، حيث ينطلق الزمن في خطه الممتد إلى الأمام ليتغلب على رباعية الأبعاد في السجن، ويدمر هندسته المعمارية والإدراكية، فيرتفع بزمنه إلى جماله الإنساني والحضاري، أحاسيس هائلة لا تكبل بالسلاسل، عواطف تتجاوز الأوقات كلها، فائضة عن الكم المحدود، كأنه يبني جنته الموعودة كحديقة معلقة بين النجوم، يحفر بالخيال، ثم يبني بالخيال، لا يعترف بالنظريات الفيزيائية، يجعل من الكون فضاءه الشعاعي سابحاً في أرجائه دون حد، يعزف على أوتار الحياة القادمة.

في جنين يتجسد الوحش الصهيوني، لتدخل المدينة إلى جهتها السابعة، البديل الآخر من أجل البقاء والصمود، هكذا فعلت الانتفاضة الأولى عام 1987، صنعت جهتها السابعة بابتكار الحجر والمقلاع سلاحاً للمقاومة بعد أن حوصرت منظمة التحرير الفلسطينية وتكالبت مؤامرات شطب القرار الفلسطيني المستقل والمشاريع الغامضة، وهكذا انطلقت الانتفاضة الثانية عام 2000 من جهتها السابعة، بعد أن فشلت المفاوضات ووصلت إلى طريق لا يقود إلا إلى مستوطنة أو إلى سجن وموت ورضوخ واستسلام، وهكذا تمرد الأسرى على مؤبداتهم وسياسة الإذلال بالدخول إلى بوابة الجهة السابعة بالإضرابات والمواجهات فأسسوا سلطة ثورية مضادة لسلطة السجان.

هناك دائماً خيار أمام الإنسان يقول كميل أبو حنيش، فالشهقة تصير صرخة، وليس كتماً للأنفاس، و قطرة الماء تصير نهراً ولا تجف في اليباس، وإذا تجرد الإنسان من سلاحه فليحمل أحلامه وذكرياته وثقافته وعقله عتاداً ويبقى في ساحة القتال، فالحقيقة ليست مادية، الحقيقة هي كل هذه الكينونة الكامنة في النفس البشرية، مما يجعل الواقع المستحيل ليس مستحيلاً، إنها التجسيد الواقعي لنزيف المخيلة.

عندما تغلق من حولك كل الأبعاد، لا السياسي يملك مفتاحاً لكسر الدائرة، ولا المجتمع الدولي قادر أن يحرك القانون الدولي ويخرجك إلى فضاء العدالة والحقوق الشرعية، وتصير حياتك حينها تشبه الذوبان والتلاشي في العتمة، أو أشلاء في انفجار قنبلة، تدعس أحلامك جنازير الدبابات، حياتك كلها جنازات ونكبات، لا بد من جهة سابعة خارج المتعارف عليه من الجهات الست، خارج اللغة المألوفة في هذا الصراع الدامي، وأظن أن مخيم جنين الوحيد الذي خرج من جهته السابعة وقلب الطاولة.

الأسير كميل أبو حنيش المحشور في الزوايا المتعاكسة، لا يخشى السجن والجدران، وإنما يخشى سيف الزمن الذي يطحنه في ذاته ويحدد له حركته وإيماءاته ومشاعره ومستوى يقظته وحدود أفكاره، وهنا يكمن جوهر الصراع بين زمنين أحدهما يودي إلى قبر الجسد والعقل والثاني إلى الانعتاق والطيران إلى المستقبل، فلنخترع الجهة السابعة والزمن السابع ما بعد الحياة وما بعد الموت، ونتجاوز الأسلاك المغروزة كأمر واقع تفرضه شروط القوة والدوران في الفراغ اللولبي، وما علينا سوى أن نطلق الحب من دواخلنا إلى خارجنا، فالقلب لا يقيده شيء، ولننقذ ذواتنا من التشظي والتوهان، لنكون واحداً لا اثنين، علماً واحداً لا عشرة أعلام، وطناً واحداً لا تمزقه المصالح والكانتونات، حينها لن يصل الغزاة المتوحشون إلى مخيم جنين وإلى قريتي حوارة وترمسعيا، يشعلون الحرائق ويرتكبون المذابح وينشرون الخراب.

الجهة السابعة لا تطلب منك أن تكتفي بالشجب والاستنكار والاستغاثة والولولة وابتكار المفردات المفخمة تعويضاً عن التقاعس وشفاء للفقدان، الجهة السابعة هي رواية جديدة، محرك وثورة، التقدم إلى الأمام، توظيف الطاقات الحيوية كلها في المعركة، الإبداع في الموت أكثر من الإبداع في الحياة، المقاومة عقيدة ورؤيا وأفعال لا تحتاج إلى أوسمة، المقاومة تعني أن تتحرر من هاجس الموت والخوف، أن تستعصي على الشطب والإبادة، أن لا تكون قابلاً للابتلاع كياناً وهوية وثقافة، المقاومة تعني كسر النص واجتراح الكتابة والصوت والرعد والسحابة، المقاومة أن تكون داخل مخيم جنين الآن وغداً وحتى يوم القيامة، المقاومة أن تعيش في السجن عشرون عاماً، أو خمسون عاماً ولا زلت تقاوم القهر والظلم بسلاح لا يفهمه السجانون وهو الإرادة.

لنذهب إلى الجهة السابعة، ما دام هذا الحصار يشتد ويخنقنا في تجمعات ومعازل وبين حواجز الموت الكثيرة، استباحة بيوتنا ودمنا يومياً، مجزرة تتلوها مجزرة، ولنتعلم من كميل أبو حنيش ووليد دقة كيف يواجهان بأحلامهم وذكرياتهم وخيالهم الحديد والإسمنت، ويخترقون الأبواب الموصدة، يعيدون تركيب الواقع وزراعة الشجر، الماضي يصنع خميرة الحاضر، والحاضر هو جنين والقدسونابلس، رواية تطل من الجهة السابعة كالصلاة أو المظاهرة إلى الحياة الحافلة.

ما أقوى الذاكرة عندما تحيي الشخوص والشهداء والأمكنة، تستدعي الأم والحبيبة والأصدقاء والشهداء، تواصل مشوار الكتابة وأطلاق النار صوتاً وصورة وأغنية، وما أجمل النوم في الحلم، عندما يأخذك إلى البيت حراً وسيداً على فصولك كلها وجهاتك المتعددة.

يقول كميل أبو حنيش: “يغدو الموت في الجهة السابعة مسألة عادية تماماً، بوابة تشبه بوابة الحب والحلم الإنساني، ففي تلك الجهة تتنازعني ثلاثية الحب والحلم والموت، ثلاثية الكينونة الإنسانية وهي تواصل رحلتها في البحث عن معنى الحياة”.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجهة السابعة في مخيم جنين الجهة السابعة في مخيم جنين



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء
 العرب اليوم - أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 02:02 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم
 العرب اليوم - أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم

GMT 07:41 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان
 العرب اليوم - مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان

GMT 10:04 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث
 العرب اليوم - شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث

GMT 06:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
 العرب اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 01:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العنف فى المدارس !

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:31 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

3 خطوات سهلة لتخفيف التوتر وزيادة السعادة في 10 دقائق فقط

GMT 02:07 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العُلا... لقطة من القرن الثامن

GMT 08:22 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل جندي إسرائيلي من لواء كفير برصاص قناص شمال قطاع غزة

GMT 07:19 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 4.7 درجات يضرب أفغانستان في ساعة مبكرة من اليوم

GMT 13:00 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مستوطنون يحتلون مسجداً ويبثون منه أغنيات عبرية

GMT 06:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يحذّر من حقبة "تغيير سياسي كبير" بعد فوز ترامب

GMT 13:36 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

"تسلا" تستدعي 2400 شاحنة من "Cybertruck" بسبب مشاكل تقنية

GMT 22:39 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سقوط قنبلتين ضوئيتين في ساحة منزل نتنياهو

GMT 16:54 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد فهمي ضيف شرف سينما 2024 بـ 3 أفلام

GMT 14:15 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد أمين يعود بالكوميديا في رمضان 2025

GMT 14:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

هند صبري تكشف سر نجاحها بعيداً عن منافسة النجوم

GMT 07:39 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

غارات إسرائيلية تقتل 20 فلسطينياً في وسط وجنوب قطاع غزة

GMT 18:37 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت التعليق على الطعام غير الجيد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab