بقلم - فـــؤاد مطـــر
ترك التركيز في معالجاتنا بوصفنا صحافيين ومحللين على الموقف غير الموضوعي من جانب الرئيس جو بايدن وعدد من رؤساء دول حلف الأطلسي وعلى ما حدث وما زال يتوالى إبادة وتدميراً وتجويعاً للشعب الفلسطيني في غزة واستهانة «هتلر» هذه الهجمة غير الإنسانية رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بتمنيات الرئيس الأميركي الحليف، انطباعاً بأن السابقين كانوا أقل ممالأة للتوجه الصهيوني. فقد كان الرئيسان ترمب وكلينتون على درجة من التودد إلى نتنياهو على نحو ما تشير وقائع شخصية ومصيرية غائبة عن الذاكرة بفعل زخم الأحداث وأحياناً الحروب التي عاشتها المنطقة العربية وتندرج دواعيها في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي طالما استنزف ثروات عربية بشرية وبرامج تنموية، بينما كانت إسرائيل المعتدية تزداد تنمية وشأناً عسكرياً.
أبدأ بإحدى الوقائع غير المسبوقة بالذات من جانب رئيس الولايات المتحدة، وخلاصتها أنه في إحدى زيارات نتنياهو إلى واشنطن اصطحب العائلة، وخلال استقبال الرئيس كلينتون نتنياهو وزوجته وولديه، داعب الرئيس الأميركي في غرفة الاستقبال أحد الولدين بينما الوالدة سارة والوالد بنيامين في غاية السعادة لأنهما أمام رئيس الدولة الأعظم وهو يتصرف بعفوية ويجد نفسه ربما من باب ممالأة زائره مداعبة الابن، وبطبيعة الحال إن مثل هكذا لفتات عفوية شخصية لها عوائد من بينها تجديد الولاية الرئاسية. وحاله في ذلك من حال الرئيس السابق دونالد ترمب الذي يحاول نيل الرئاسة أو لا ينالها، والذي يقول للناخب الأميركي اليهودي الهوى إن الذي قدَّمه بايدن إلى شخص بنيامين نتنياهو ليس أدسم مما قدَّمه (أي ترمب) يوم 6 ديسمبر (كانون الأول) 2017 للشعب اليهودي والمتمثل في قرار إدارته الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ويتضمن الإعلان، المباغت للعرب بالذات ولمعظم دول العالم بنِسَب متفاوتة، وصْف الهدية الترمبية بأنها «خطوة متأخرة جداً من أجْل دفْع عملية السلام في الشرق الأوسط والعمل باتجاه التوصل إلى اتفاق...».. وكي لا يبدو مستفِزاً الأمتيْن العربية والإسلامية وهو يطلب للتو من وزارة الخارجية الاستعدادات لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، فإنه أرفق هديته الخارجة على الحقائق الموضوعية بالقول: «إن الولايات المتحدة تدعم حل الدولتَيْن إذا أقره الفلسطينيون والإسرائيليون»، وهذا على حد ما يراه «يصب في مصلحة أميركا ومسعى تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين».
«هدية القدس الترمبية» التي جعلت نتنياهو وقد بات أطول شاغلي رئاسة الحكومة في إسرائيل يتطلع إلى أن يكون رقماً جديداً إلى جانب الزعامات الصهيونية أمثال بن غوريون صاحب مقولة «لا معنى لإسرائيل من دون القدس ولا معنى للقدس من دون الهيكل» (أي مكان المسجد الأقصى) سبقها وهو المكلل بتهم الفساد وتتولى إحدى المحاكم النظر فيها قوله في جلسة عقدتْها حكومته يوم الأحد 17 أبريل (نيسان) 2016، متعمداً أن يتم الانعقاد في مستوطنة أُنشئت في هضبة الجولان السوري المحتل: «هذه هي أول مرة تَعقد الحكومة الإسرائيلية جلسة رسمية فيها منذ أن وُضعت تحت الحُكْم الإسرائيلي قبْل 49 عاماً. لقد اخترتُ عقْد الجلسة الاحتفالية للحكومة في مرتفعات الجولان كي أُمرر رسالة واضحة. كان الجولان جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل في العصر القديم، والجولان هو جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل في العصر الحديث. مرتفعات الجولان ستبقى بيد إسرائيل إلى الأبد. ولقد حان للمجتمع الدولي بعد خمسين عاماً أن يعترف أخيراً بأن الجولان سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية إلى أبد الآبدين...»!
في ضوء الذي أقدمت عليه حركة «حماس» باحتجاز عدد من الإسرائيليين مدنيين وعسكريين وإخفاق حكومة نتنياهو في استعادتهم بالحسنى والتفاوض كما المألوف في مثل هذه الحالات، خصوصاً أن هنالك مرجعيتين مؤثرتين ومتفهمتين (مصر وقطر) يمكنهما تحقيق التسوية المتوازنة، أصدر نتنياهو الأوامر للجيش الإسرائيلي باعتماد الفتك تدميراً وتهجيراً وتجويعاً في جميع مناطق قطاع غزة وفي ظنه أن أسبوعاً كافياً للحسم، لكن المنازلة دخلت الشهر السابع وقابلة للمزيد.
هل ما زال هنالك حل ينقذ إسرائيل غير التوافق الدولي على صيغة الدولتين اللتين تتعايشان في حال اقتناع الشعبين بأن الحلم التوراتي بات كابوساً بفعل الهجمة الحمساوية قد تليها هجمات إيرانية وفْق الظروف ونوع التحديات، وأن رهان نتنياهو عند تكليفه تشكيل الحكومة التي لا تبدو قادرة على غير التدمير والتهجير والتجويع وتكبيد الجيش الإسرائيلي المعتدي خسائر لم تحدث من قبل في حربي 1967 و1973 مع كل من مصر وسوريا والأردن، إنما هو خاسر وإن طالت لعبة مواصلة التدمير وتوسيع العمليات بحيث تشمل أيضاً وبوتيرة أكثر تدميراً مناطق في جنوب لبنان وبقاعه.
لم يخطر في بال أي من الرؤساء الأميركيين، وبالذات أسخاهم الرئيس بايدن، الذين وهبوا «إسرائيل نتنياهو» مواقف وعطاءات لم يسبق حصول الكيان المزروع في أرض الآخرين عليها، أن هذا الذي أصاب إسرائيل ويتواصل نزفاً وارتباكاً وانقسامات في مناطق كثيرة من المجتمع اليهودي يمكن حدوثه. وحتى عندما قال نتنياهو بعد تكليفه رسمياً يوم الأحد 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 إن «إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وإن حل الصراع مع الفلسطينيين ليس أولوية ولن يكون مستقلاً بل هو جزء من حل أوسع مع العرب أولاً»، فإنه بقوله هذا لم يكن بعيد النظر وراهن على أن أميركا التي يدلل رئيسها في مقر الرئاسة ولديه خلال زيارة برفقة زوجته إلى واشنطن، وكما لم يفعل رئيس أميركي ما فعله كلينتون من قبل ولا من بعد يمكنه ببعض التفاهمات مع دول المنطقة فرْض الأمر الواقع على الجميع، كما أن حساب بيدره الأميركي لم يتحقق من تداعيات الحقل الغزي. ولقد أضاع هذا الذي قال عنه منافسه على رئاسة الحكومة يائير لبيد مباشرة بعد تكليفه يوم الأحد 13 نوفمبر 2022: «إنه يوم أسود للديمقراطية الإسرائيلية»، فرصة لاحقة هي التي عرضها الرئيس بايدن المصدوم من مجريات حرب غزة وقصْده من الذي عرضه وهو «قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح» إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكان رد نتنياهو على الفور الرفض مع أنه في واقع الحال كان يعاني نزفاً من الجرح الحمساوي في أحلام الزعامة التاريخية.
هل ستبقى المداهنة الأميركية - الأطلسية على ما هي عليه للعابثين في أمن المنطقة واستقرارها. ولماذا لا يحسم المداهنون الأمر بحيث يتم وضْع الأمور في نصابها وتهيؤات نتنياهو وأمثاله في حجمها الحقيقي، واستحضار المبدئية العربية وما اتخذته من وقفات ومواقف تتسم بالمرونة وبما لا يجعل المنطقة دائمة العيش على سياسات أشبه بالألغام. لقد مضى أكثر من عقدَيْن على مبادرة السلام العربية (2002)، التي ما زالت حاضنتها السعودية ترويها بمواقف من الحكمة والحنكة والنخوة الإغاثية للغزيين كما للسُّلطة الوطنية في عرينها (رام الله) المعلن عنها بحيث تبقى المبادرة العربية الحل الذي لا حل غيره تسوية مغفورة ﻟ«أم القضايا فلسطين» وإنقاذاً للسمعة الدولية ولحفظ ماء الوجه الإسرائيلي - الأميركي - الأطلسي. عسى ولعل تكون هذه المبادرة عنواناً رئيسياً في فضاء القمة العربية في البحرين مع إرفاق التمسك بمضمونها بتحديد مواعيد جدول زمني للتنفيذ. وبذلك يستقر الحق الفلسطيني ويزهق الباطل الإسرائيلي الذي كان زهوقاً.