دخل البروفيسور إلى قاعة المحاضرات فى إحدى الكليات الغربية التى تدرّسُ القانون. جال ببصره بين طلاب السنة النهائية. وقع بصره على إحدى الطالبات: شابة جميلة فى مقتبل حياتها. أشار نحوها بإصبعه وقال بكل هدوء وحسم:
ابتسمتِ الطالبةُ وقالت:
- الطالبة: اسمى أليكسيس.
- البروفيسور: أليكسيس... أرجو منكِ مغادرة القاعة فورًا.... ولا أريد أن أراكِ فى أىٍّ من محاضراتى مرة أخرى.
اصفرَّ وجهُ الفتاة، وعلا محياها سيماءُ الإحراج والانسحاق:
- الطالبة: لم أفهم!
- البروفيسور: لن أعيدَ كلامى.... شكرًا لك.
وأشار نحو باب القاعة.
أغلقتِ الطالبةُ حاسوبها والدموعُ متحجّرة فى عينيها.... جمعت أغراضها... أخذت حقيبتها وتوجهت نحو باب قاعة المحاضرات تتعثّر فى خجلها، وخرجت وسط دهشة زملائها وهمهمات التساؤل الصامت، تلك التى قطعها البروفيسور... إذ توجّه إلى الطلاب قائلًا:
- البروفيسور: لماذا توجد القوانين؟ ما الغرض من القوانين؟ هل من مجيب؟
- طالب: وُجدت القوانينُ لتحقيق النظام الاجتماعى.
- طالبة: لحماية الحقوق الشخصية للأفراد.
- طالبة أخرى: حتى نستطيعَ الاعتمادَ على الحكومة.
وخلال تلك الإجابات المختلفة، كان البروفيسور يومئ برأسه بما يعنى أن الإجابات غير دقيقة أو ناقصة أو خاطئة. إلى أن قال طالبٌ:
- العدالة.
أشار البروفيسور بإصبعه نحو هذا الطالب، مستحسنًا إجابته وقال:
- شكرًا لك.
ثم عاد ونظر إلى الطلاب وسألهم:
- البروفيسور: الآن أخبرونى.. هل كنتُ غيرَ عادل مع زميلتكم قبل قليل؟
أومأ الطلاب برؤوسهم إشارة الموافقة، فاستطرد البروفيسور قائلا:
- بالتأكيد لم أكن عادلًا مع زميلتكم. ولكن... لماذا لم يحتجّ أىٌّ منكم؟!! لماذا لم يحاول أحدُكم إيقافى؟! لمَ لمْ ترغبوا فى منع الظلم؟!
نظر الطلاب إلى بعضهم البعض فى حيرة.... فاستطرد البروفيسور:
- حسنًا، ما تعلمتموه للتوّ خلال مشهد طردى لزميلتكم دون سبب، لن تستوعبوه فى ألف ساعة من المحاضرات، ما لم تعايشوه بأنفسكم. الحقيقة أنكم لم تتكلموا لأن الأمر لم يؤثر عليكم شخصيًّا!
أطرق الطلابُ برؤوسهم علامة شعورهم بالخجل، فاستطرد البروفيسور:
- لكن هذا السلوك يضركم ويضر الحياة.
ضحك البروفيسور ساخرًا وأكمل:
- أنتم تظنون أن ما ارتكبتُه من ظلم لا يعنيكم ولا شأن لكم به. حسنًا، أنا هنا اليوم لأقول لكم:
- إذا لم تساعدوا فى تحقيق العدالة، فربما ستواجهون الظلمَ ذاتَه يومًا ما... ولن يقف بجانبكم أحدٌ. الحقيقة والعدالة مسؤوليتُنا جميعًا. ويجب أن نكافح من أجلها جميعًا؛ لأننا فى الحياة والعمل، نعيش معًا. ولكن ليس (إلى جانب) بعضنا البعض. نبررُ الصمتَ لأنفسنا بأن مشاكل الآخرين لا تعنينا ولا تخصُّنا.... ونذهب إلى البيت سعداء لأننا نجونا! لكن الأمر يتعلق «بالوقوف إلى جانب بعضنا البعض». الظلمُ يحدث يوميًّا فى العمل والرياضة أو فى الحافلة. ودائمًا ما نعتمد على «شخص آخر» ليعتنى بالأمر! وهذا لا يكفى! من واجبنا أن نقف إلى جانب الآخرين... وأن نتحدث باسمهم عندما لا يتمكنون من ذلك. أنا هنا لأعلمكم (قوة الصوت) التى تمتلكونها. أريدكم أن تتعلموا (التفكير النقدى) الذى يمنحكم قوة الوقوف إلى جانب الحق.... حتى لو كان ذلك يعنى مواجهة ما يفعله الجميع.
***
انتهى الفيديو القصير الذى شاهدتُه على إحدى المنصّات، والذى أسَرَنى لأنه لخّص كلَّ ما تعلمتُه من أبى، رحمه الله، حين كنتُ أراه يقفُ إلى جوار كل مظلوم لا يعرفه، مدافعًا عن حقّه ومكافحًا لرفع الظلم مهما كلّفه هذا من وقت ومال وألم. علّمنى أبى أن النبلَ يبدأُ وينتهى عند الوقوف فى وجه الظلم، وإن لم يقع علينا مباشرة. هذا مبدئى وتلك عقيدتى، وذاك درسُ أبى.
***
ومن نُثار خواطرى:
(محكمة)
جئتُ
من أقصى المدينة أسعى
أدخلُ القاعةَ المَهيبة
أنزعُ عن عينىّ
عُصابةَ العدلِ
وريشةَ الضمير عن تاجى
أضعُ المَيزانَ فوق المِنّصَّةِ
ثم أهبطُ الدرجات
وأقطعُ القاعةَ الواسعة
مخترقةً نظراتِ الحضور
تتطايرُ من حولى مثل سهامٍ مارقة
لن أنظرَ إلى نفسى
لكى أتأكدَ أن الروبَ الأسودَ
مُحكمٌ حول جسدى النحيل
فأنا
مازلتُ «ماعت»
دون ريشةٍ ودون ميزان
ألجُ بهدوءٍ خلفَ السياج
أقبضُ بيدىّ على القضبان
وأنتظرُ
......
ثلاثَ دقاتٍ
من المِطرَقة.