بقلم : فاطمة ناعوت
«مازلتُ ذاك الرجلَ الذى ابتكر لكِ الأعيادَ. وأنتِ مازلتِ تضعين العطرَ الناعمَ ذاته، وتُشرقين بنفس الابتسامة، التى تبوحُ بالكثير دون قول! مازلتُ ذلك المُجرَّبَ الذى يكتب أشعارًا لا يقرؤها أحد، وأمشى فى الطريق الذى يستهوينى. طريقٌ واحدٌ استطاع أن يجعلنى سعيدًا، ذاك الذى سلكناه معًا ذات يوم».
هذه الكلماتُ العذبةُ التى كتبها عاشقٌ لجميلته، ذكّرتنى بأقدم عبارة غزل فى التاريخ، قالها رجلٌ لمحبوبته: «هى التى من أجلها تُشرقُ الشمسُ»، قالها الملك «رمسيس الثانى» لزوجته الملكة «نفرتارى»، وحفرها على جدران معبد «أبو سمبل»، الذى بناه الملكُ تكريمًا لمليكته الجميلة.
أما العاشقُ، بطل هذا المقال، فهو المهندس «صلاح دياب»، وأما المحبوبة المُتغزّلُ فيها، فهى المهندسة الجميلة «نينى الطويل»، زوجته ورفيقة مشواره الطويل، وأما القطعة الغزلية فوردت فى مذكراته الصادرة عن «الدار المصرية اللبنانية» بعنوان: «هذا أنا».
أدبُ «السيرة الذاتية» من أعذب وأصعب ألوان الأدب. «العذوبةُ» مصدرُها الصدقُ والتحرّرُ من الخوف من دينونة الناس، وأما «الصعوبة» فمصدرها القدرةُ على «التعرّى» فى وجه العواصف، وكشف الكواليس التى لا ينبغى لها أن تُرى. كاتبُ السيرة الذاتية لا يكتبُ عن نفسه وفقط، بل لابد أن يمرَّ قلمُه على أعناق جميع من صادف من بشرٍ. حينًا يكون مرورُ القلم رهيفًا حانيًا، وحينًا يكونُ كما نصلٍ حادٍّ يجزُّ عنقَ مَن يمسَّه. وعلى الكاتب أن يتحمّل المحاكمةَ التى ستُعقدُ ضدّه، ويكون جاهزًا لدفع «ديّة» الأعناق التى نحرَها قلمُه. لهذا تفتقرُ المكتبةُ العربية، بل والعالمية، إلى هذا اللون من الأدب «العزيز» و«الخَطِر». السيرة الذاتية ليست قَصًّا لوقائعَ وتواريخَ، بل تحليلٌ فلسفى وشعورى ونفسى لكل ما جرى. ولا تسلمُ من محاكمة الماضى، وهى محاكمةٌ خاسرة، تشبه مصارعة «دون كيخوتة» لطواحين الهواء. فالماضى مستحيلٌ أن يُدان أو يُهزم أو يعترف بأخطائه. هو المنتصرُ دائمًا بأمر الزمان وقوة حدوثه. «عشتُ لأحكى» ماركيز، «أيام» طه حسين، «الطريق إلى الحرية» مانديلا، «قصة حياتى» هيلين كيلر، «اعترافات» جان جاك روسو، «الخبز الحافى» محمد شكرى، «أنا» العقاد، «طواسين» الحلاج، وغيرها من فرائد السير الذاتية، جميعُها كُتبت بقلم الألم، ومحبرة الوجع. حتى أعظم الناجحين فى العالم، وبطلُ حكايتنا أحدُهم، لم يصلوا إلى نجاحاتهم إلا بعدما تمزّقت أقدامُهم على طريق الشوك.
حين تجد اسم رجل أعمال بحجم «صلاح دياب» على غلاف كتاب «سيرة ذاتية»، فلابد أن تتوقّع صفحاتٍ حاشدةً بالأرقام والإحصاءات والأرباح والخسائر ومصطلحات البترول والزراعة والاستثمار وغيرها من عالم الأموال والصفقات. لن تنتظرَ قلبًا على ورق. ولكنك، ومنذ الصفحة الأولى، وحتى الأخيرة رقم ٤٠٠، ستُفاجأ بقلبٍ تحوّر إلى يدٍ تقبضُ على شريانٍ تحوّر قلمًا يكتب. هذا كتابٌ ممتعٌ. وأنا نادرًا ما أعيدُ قراءة فقرة فى صفحة، لأن العمر قصيرٌ والمرءَ يحتاجُ إلى خمسة آلاف عام ليقرأ ما يستحق القراءة، اللهمّ إلا فقرة فى قصّة لـ«تشيكوف» المستحيل، أو «إبراهيم أصلان» المدهش، ومن فى مستواهما الشاهقين. لكننى أعدتُ قراءة عديد الفقرات «الإنسانية» فى هذا الكتاب، مثل ما كتبه «صلاح دياب» عن جدّه الصحفى المناضل «توفيق دياب» وعذاباته من أجل الوطن، وما كتبه عن زوجته وأبنائه، ووالدته عاشقة «شكسبير»، وخاله الراحل الذى ورث اسمه «صلاح»، وما يزخر به الكتابُ من المواقف الماسّة كأن يتحوّل خصمٌ إلى رفيق قلم، مثل «عبدالله كمال»،
وحين شيّد صحيفةً هائلة بحجم «المصرى اليوم» لكى يردّ اعتبار صحفى جسور دفع فاتورة صدقه مثل «مجدى مهنّا» وحرصه على أن تكون منبرًا نظيفًا فى زمن عكِر على غرار صحيفة «الجهاد» التى شيدها جدّه لتصوّبَ سهامها فى وجه الفاسدين دون خوف ولا حسابات؛ إيمانًا بأن كلمة الحق فى وطنٍ منذور للمحن، تساوى طلقة فى يد مقاوم، أو حين يفكّرُ فى تشييد محال «لابوار» لكى يتذوّق طفلٌ قطعة حلوى، أو حين يكتبُ عن نصالٍ تكسّرت على النصال فى قلبه بلغت ذُراها فى زنازين السجون، حيث انتظار الفجر، لا بصفته موعدًا للخروج والحرية، بل مجرد رمز لبزوغ ضوء من عتمة، وحين كتب عن إخفاقاته وكبواته قبل نجاحاته، والأرستقراطيات المتنافرة التى صنعته، وغيرها من مئات الخيوط الإنسانية العذبة المُعذّبة التى نسجت سطورَ هذا الكتاب الجميل، الذى يفتح نوافذَ نتلصصُ من خلالها عليه طفلًا فى بيتٍ مزدحم بالكتب، وحفيدًا لصحفى ترجم الثورةَ إلى رصاصاتٍ على جريدة، ثم مهندسًا شابًا يخرج من بيت الثقافة إلى بيت المال، دون أن يخسر إنسانيته. يقفُ وراء ستار الاعتراف مُقرًّا بأخطائه، ثم يقف أمام «مرآة ميدوزا» ينظرُ إلى نفسه ويبتسمُ؛ لأنه مازال حيًّا، ومازال يتعلّم.
«صلاح دياب» فى «هذا أنا» لم يقدم صورة مصقولة عن رجل ناجح، بل كشف عن قلبٍ كسرته الحياة، وعقلٍ تحدّى المألوف، وبصيرة آمنت بأن الحريةَ، مهما كلَّفت، تستحق.