بقلم: فاطمة ناعوت
مشلولٌ كفيف عصبى المِزاج، يجلس على مقعده المتحرك يحدّق للأعلى ولا يكفُّ عن الثرثرة فى انتظار شىء غامض لا يأتى. خادمه الأعرج مصابٌ بداء يمنعه من الجلوس، متبّرمٌ وضجِر لكنه مطيعٌ لأوامر سيده المتناقضة الهزلية المتلاحقة واللامعقولة. ولا ندرى أبدًا لماذا لا يتركه ويمضى رغم هذا، ورغم تصريحه بأنه لا يحبُّ سيده حين سأله: هل تحبّنى؟ يتحرك الخادمُ هنا وهناك ينظف البيت الخالى تقريبًا من الأثاث ويتجول بمقعد سيده الذى يُصرُّ على المكوث فى منتصف الغرفة تمامًا، وكأنه يصبو لاحتلال ذروة اهتمام العالم. وفى أحد أركان البيت، صندوقا قمامة، يسكن فيهما رجلٌ وزوجته، مبتورا الساقين، هما والدُ القعيد الأعمى، ووالدته.
أولئك هم أبطال الحكاية الأربعة الذين يعيشون فى مكان ناء فيما بعد الحياة، ينتظرون «النهاية» التى لا نعلم أبدًا ماهيتَها، وإن كانت طيبة أم كارثية. إنها تيمةُ «الانتظار» التى يجيد «صمويل بيكيت» اللعبَ على أوتارها لكى يُشعرك بالقلق الدائم والتهديد والخوف من المجهول، حتى وإن كان ذلك المجهولُ هو «المُخلّص» الغامض الذى أبدًا لا يأتى، كما فى مسرحيته الخطيرة «فى انتظار جودو» Waiting for Godot التى كتبها «بيكيت» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ليعبّر بها عن حال الإحباط والانكسار الإنسانى والخُذلان الذى تعيشه البشريةُ بعد تدمير العالم إثر حربين هائلتين عبثيتين، لا مهرب من تداعياتهما الكارثية إلا بانتظار «مُخلّص» وهمى، لا يطأ بقدميه خشبةَ المسرح/ الحياة. ومع هذا فالجميع فى انتظاره، حتى أنا وأنت يا عزيزى القارئ. كلٌّ منّا ينتظرُ شيئًا ما، فإن جاء نبدأ فى انتظار غيره، وإن لم يأت فحالُ الانتظار دائمًا على الوضع ON، لأنها العلامةُ الوحيدة على الحياة. لا تنتهى حالُ الانتظار إلا بالموت، فى «نهاية اللعبة».
Fin de Partie «نهاية اللعبة» كتبها «صمويل بيكيت» بالفرنسية عام 1957، وهى استمرار لحال «التروما» الإنسانية التى عاشها «بيكيت» ومجايلوه أثناء الحرب العالمية الثانية التى اشتعلت رغم الحركات «السلامية» التى أعقبت الحرب العالمية الأولى، فدمّرت نصف العالم وغّيرت وجهه إلى التجهم والعبوس. فالحروب لا تنتهى بانتهاء التحركات العسكرية، بل تمتدُّ آثارُها السلبية على البشرية إلى نهاية الحياة، أو «نهاية اللعبة». فالحياة لعبةٌ فى أصلها «أنما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهو»/ الحديد 20.
نعودُ إلى بيتنا الحزين، وشخصياتنا الأربع كما رسمها «صمويل بيكيت» فى واحد من أعظم أعمال «مسرح العبث» Absurd الذى كان فى أصله تمردًا، وربما محاكاةً لعبثية الإنسان حين يتسيّد ويقتل ويُجوّع ويُمرض ويظلم ويستبد ويطغى... متوّسلا فى ذلك أحطَّ الأدوات القمعية مثل السلاح أو السلطة أو التجهيل المعرفى للبسطاء. «نهاية اللعبة»، أو «لعبة النهاية» كما اختار أن يسميها «البيت الفنى للمسرح» على «مسرح الطليعة» العريق احترامًا للعنوان الذى وضعه المخرج الراحل «سعد أردش» عام 1962 ليكون أول عرض يُقدم على «الطليعة». تُعرض اليوم فى المسرح ذاته فى ثوب فنى جديد من إخراج «السعيد قابيل»، وبطولة أربعة من المميزين هم وفق الظهور المسرحى: «كلوف» الخادم المتبّرم، وأدى دورَه بعبقرية الفنان «محمد صلاح»، «هام» الكفيف المشلول، وأدى دورَه بامتياز الدكتور «محمود زكى»، «نيل» الأم مبتورة الساقين التى تسكن صندوق القمامة وأدت دورها بامتياز الفنانة «لمياء جعفر»، وأخيرًا «ناج» الأب مبتور الساقين الذى يسكن فى صندوق قمامة ملاصق لصندوق زوجته، وأدى دوره بامتياز الفنان «محمد فوزى الريس». النصُّ الفرنسى ترجمه إلى العربية الشاعر اللبنانى الصديق «بول شاوول»، ديكور «أحمد جمال»، ماكياج «وفاء مدبولى»، أزياء «مها عبدالرحمن» إضاءة «إبراهيم الفرن». مخرج منفذ «محمد فاروق»، وأما الموسيقى فكانت إهداءً من مخرج العرض الجميل «السعيد قابيل».
شكرًا للمخرج «عادل حسّان» على استضافة هذه العروض الجميلة على خشبة مسرح «الطليعة» الذى نهرعُ إليه لنرتشفَ الشهدَ المُصفّى من فرائد المسرح الرفيع، رغم ما نتجشَّمه من أهوال بصرية وبشاعات أخلاقية حتى الوصول إلى بابه، بسبب الإشغالات «المخجلة» التى تسدُّ الطريقَ إليه، وتحتلُّ حَرَمَه ومساحتَه الخاصة، وتمتد إلى «مسرح العرائس» و«المسرح القومى»!!.
كتبتُ كثيرًا حتى جَفَّ مِداد قلمى حول هذا الوضع المهين لمسارح عظيمة، كان آخرها مقال كتبتهُ فى مساحتى بجريدة «المصرى اليوم» عنوانه: (سيادة الرئيس.. أنقذْ لنا مجمعَ مسارح العتبة) بتاريخ 11 يوليو 2019، وإثر المقال تحركت بالفعل وزارةُ الداخلية وأزالت الإشغالات فورًا، لكنها سرعان ما عادت من جديد لتُشوّه واحدةً من أجمل بقاع مصر الثقافية والتاريخية. وكلّى أمل فى نجاح وزير الثقافة الفنان د. «أحمد هنّو» فى استرداد هذه البقعة الثقافية الثرية المخطوفة بالإشغالات والبلطجة.