بقلم : فاطمة ناعوت
ليست كلُّ العروض المسرحية تُشاهَد، بعضها يُعاشُ، ويعيشُ ليُروى ويَخلُد. بعضُها يختطفك، فلا تعودُ مُشاهِدًا يجلس ليتلقّى، بل تتورّط إذ تجد روحَك قد صعدت إلى الخشبة واندمجت مع طاقم العمل، تتنفّس آلامَهم وتعيشُ صراعاتِهم وأحلامَهم. مسرحية «مش روميو وجولييت»، التى شهدنا ليلتَها الأخيرة لهذا الموسم، رقم ١٢٠، خلف ستارة «المسرح القومى» العريق، نجحت فى التحليق بنا فى سماوات الدهشة والإبهار. تجربةٌ فنية ثرية تنبض بالحياة، تخزُّ القلبَ والعقل معًا، وتُلقى بك فى أتون السؤال. ولا يكون الفنُّ فنًّا إن لم يجعلك تمورُ بالسؤال: «هل نحن على ما يُرام؟».
فى هذا العمل، لن ترى نسخة معدّلة من تراجيديا شكسبير الشهيرة، بل مرآة تعكس مجتمعنا المصرىَّ: قديمَه وحاضره؟ هل علونا عن ماضينا؟، أم تخلّف حاضرُنا عن أمسِنا؟، الفنُّ الرفيعُ إذ يُحلِّقُ فى سماوات الاكتمال، حين تجتمع فى بِنيته الرسالةُ المجتمعية النبيلة، إلى جوار الإتقان الفنى. المضمونُ المحترم إذا صيْغَ فى شكل رفيع، تكتمل المعادلة الصعبة وتحقق الجمالُ العصىُّ. المسرح الغنائى الاستعراضى فى أوج اكتماله حين تشدو حنجرةُ «على الحجار» الاستثنائية، مع الصوت الأوبرالى «أميرة أحمد»، مع الأداء الرائع لـ «رانيا فريد شوقى»، و«ميدو عادل» و«يوسف إسماعيل»، مع الصياغة الشعرية الماسّة لـ «أمين حداد»، وموسيقى «أحمد شعتوت»، واستعراضات «شيرين حجازى»، وديكور «محمد الغرباوى»، وإضاءة «ياسر شعلان»، مع عصا مايسترو الإخراج المسرحى «عصام السيد»، فأنت أمام عرض وُلِد ليعيش ألف عام. أما الصغارُ المدهشون، تلاميذ المدرسة الثانوية التى تدور حولها الحدوتة، فكانوا من البراعة وامتلاك ناصية الفن والاستعراض، بحيث يستحقون الإشادة اسمًا اسمًا، وموهبةً موهبة.
«مش روميو وجولييت» ليست إسقاطًا مصريًّا على قصة شكسبيرية تُعالج الصراع بين عائلتين متنافرتين يقفُ الثأرُ بينهما حائطًا صلبًا، بل هى صياغة جذرية تنبض بروح مصر، حين كانت قبل نصف القرن مجتمعًا مثاليًّا متماسكًا لا يعرفُ التمييز الدينى فى علاقات الجيرة والصداقة كأسرة واحدة لا تعرف الشقاق، قبل أن يدبَّ فى خصرها، مع نهايات السبعينيات، نصلُ الشتات؛ لندخل فى كارثية الشقاق العقدى والتمييز الطائفى. هذا حى «شبرا» العريق الذى كان أسرة واحدة لا تميز بين المسلم والمسيحى، حيث تتشابك الأديان والثقافات فى نسيج متناغم يصعب فصله، قبل أن تدبَّ فى أرضنا الطيبة قدمُ الانقسامات الاجتماعية الثقيلة، لتحفر هوّة عميقة لا قرار لها. حكاية صداقة نظيفة تجمع بين المعلّمة المسلمة، والمعلّم المسيحى يتزاملان فى مدرسة ثانوية، بعدما تزاملا جيرانا فى الحى الطيب، يتقاسمان اللعبة واللقمة ومقاعد المدرسة طفلين فى أسرتين جمعت بينهما الجيرةُ والعشرة والمحبة. الصغارُ فى المدرسة الثانوية يتعالى همسُهم حول تلك العلاقة «المشبوهة» التى تربطُ المسلمة بالمسيحى، ولو فى إطار الصداقة النقيّة!، وتتحوّل براءةُ الصِّبية الصغار إلى عيون جارحة وألسن حادة تتنابز وتغتاب وتغتال أدبيًّا ومعنويا: «إحنا ملايين العينين، موجودين عَ الناحيتين، بنراقبهم مهْما عملوا، مهْما راحوا فين»!!. هنا يعّبر «أمين حداد» بعبقرية عن مجتمع لم يعد يتكاتف ليبنى ويتعاون لينهض، بل صار عُصبةً من «البصاصين» يخترقون حيوات الناس ليمزقوا أستارهم ويفتشوا عن عوراتهم، فإن لم يصادفوا عوراتٍ تُلاك، اخترعوها وصدقوها وأذاعوها زورًا وكذبًا، ثم شيدوا المذابحَ والمقاصل لينحروا الأبرياء قرابين لأهوائهم المريضة. الصياغة الشعرية للعمل جاءت نابضة بالحياة، تكاملت فيها التراجيديا المجتمعية مع لمسات من الكوميديا اللطيفة التى أكملت خيطَ اللؤلؤ. كل كلمة رُصِّعت فى مكانها بعناية لتُكمل اللحن المسرحى، فما كانت الشخصيات تتحدث، بل تُغنى حتى فى صمتها، وكانت الموسيقى شريكًا مثاليًا، لا مجرد خلفية موسيقية، تحمل كلمات الحكاية، فلا تسمعها بأذنيك، بل تخترق روحك لتجعل السؤال داخلك يتمرد ويصرخ.
«مدرسة الوحدة»، واسمُها يحملُ الدلالة، هى صورة مصغّرة للمجتمع المصرى الذى نجح المغرضون فى شقِّ صفه عقديًّا، فعرف التناحرات الطائفية التى كانت قبل عقود نكتةً تُحكى لنضحك، لتصير مع الوقت واقعًا مُرًّا ينحرُ فى جسد مصر المنهك. ثم يجىء الناظرُ المثقف ليئد الصراعَ بإشراك الطلاب فى مسرحية «روميو وجولييت»، فيتعاون الطلابُ ويعرفون أن المحبةَ طوقُ النجاة. ثم كان يجب إضافة لفظة: «مِش»، لكى تُسرَّبَ رسالةُ تقول إن علاقة الحب بين المسلمة والمسيحى محكومةٌ بالفشل جالبةٌ الشقاء على الأهل؛ فما جدوى حب يُخلِّف التعاسة ويُخالف الشرع؟! «مش روميو وجولييت» بل صداقة وأخوّة غير قابلة للفصم، مثلما مجتمعنا المصرى المنشود الذى مرّت به الأهوالُ ومحاولاتُ الهدم؛ لكنه عافر وكافح لكى يصمد فى وجه أعداء الوطن، جسدًا واحدًا سليمًا عفيًّا، بمسلميه ومسيحييه، لا يعرفُ الشقاق ولا التمييز. تلك هى الرسالة التى قدمتها المسرحية بعبقرية لا مثيل لها. شكرًا للفن الرفيع، وشكرًا لفرقة المسرح القومى وللفنان الدكتور «أيمن الشيوى» مدير المسرح القومى العريق.