بقلم : عبد اللطيف المناوي
شكّلت الولايات المتحدة دائمًا حجر الأساس فى منظومة الأمن الأوروبى، لكن مع تصاعد التوجهات الانعزالية فى واشنطن، وخاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أصبح مستقبل التحالف الأمريكى- الأوروبى موضع تساؤل، فهل تستطيع أوروبا العيش دون المظلة الأمنية الأمريكية؟.
تعتمد أوروبا منذ عقود على حلف شمال الأطلسى (ناتو)، الذى تقوده الولايات المتحدة، حيث تتمركز القوات الأمريكية فى قواعد عدة على امتداد القارة. ومع أن الاتحاد الأوروبى يضم ٢٧ دولة، ويُعد ثانى أكبر اقتصاد عالمى، إلا أن جيوشه غير مستعدة لمواجهة تهديدات كبرى دون الدعم الأمريكى. حتى بريطانيا، التى كانت فى السابق إمبراطورية عظمى، تعانى اليوم تراجع قدراتها العسكرية. ويتجلى هذا الضعف فى العجز الأوروبى عن دعم أوكرانيا بشكل كافٍ أمام الغزو الروسى، مما يثير مخاوف بشأن قدرة القارة على الدفاع عن نفسها إذا تعرضت لهجوم مماثل.
يرى بعض القادة الأوروبيين أن الحل يكمن فى إنشاء جيش أوروبى موحد، فقد دعا الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى هذه الفكرة مرارًا، لكن دون جدوى، فيما أشار الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى إلى ضرورة بناء قوة دفاع أوروبية مستقلة. غير أن تشكيل جيش أوروبى ليس بالمهمة السهلة، إذ يتطلب تنسيقًا سياسيًّا وعسكريًّا كبيرًا، فضلًا عن استثمارات مالية ضخمة، فى ظل أوضاع اقتصادية متأزمة.
وفى ظل هذه التحديات، تحاول بعض الدول الأوروبية تعزيز إنفاقها الدفاعى، فالمملكة المتحدة، مثلًا، وقّعت اتفاقًا تاريخيًّا مع أوكرانيا يمتد إلى ١٠٠ عام، يتضمن مساعدات عسكرية بمليارات الجنيهات الاسترلينية، كما أن برلين وباريس تدرسان خططًا لحشد قوات لحفظ السلام بعد انتهاء الحرب الأوكرانية، لكن هذه الجهود لا ترقى إلى بناء قوة أوروبية مستقلة قادرة على تعويض الغياب الأمريكى المحتمل.
الموقف الأمريكى لا يبدو مطمئنًا للأوروبيين، إذ أكد ترامب ومسؤولون فى إدارته أن بلاده لن تستمر فى حماية أوروبا كما فى العقود الماضية، ما لم ترفع الدول الأوروبية إنفاقها العسكرى إلى مستويات تتجاوز حتى النسبة التى يطالب بها «ناتو». ومع أن الانسحاب الأمريكى من الحلف لم يصبح واقعًا بعد، إلا أن مجرد التلويح به يعكس تغيرًا جذريًّا فى العلاقات عبر «الأطلسى».
يواجه الاتحاد الأوروبى معضلة استراتيجية: فمن جهة، لا يستطيع الاستمرار فى الاعتماد على أمريكا، ومن جهة أخرى، ليس جاهزًا بعد للاعتماد على نفسه. والحل قد يكون فى تسريع بناء صناعة دفاعية أوروبية متطورة، مع الحفاظ على علاقة براجماتية مع واشنطن تضمن استمرار التعاون الأمنى، ولو بصيغة جديدة. المستشار الألمانى، أولاف شولتز، أشار إلى هذا التوجه، مقترحًا أن تستمر أوروبا فى شراء العتاد الأمريكى فى مقابل عدم تخلى واشنطن عنها.
وفى ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، يبدو أن أوروبا أمام اختبار تاريخى: فإما أن تتحرك سريعًا لبناء منظومة دفاعية مستقلة، أو تظل رهينة تقلبات السياسة الأمريكية.