بقلم : عبد اللطيف المناوي
مشهد عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع عزة، والذى تم بث مقاطع منه على مدار يومين، هو مشهد مدهش ودالّ. مدهش لأنه حقيقى للغاية، يحمل مشاعر العودة إلى الوطن، والتى لو اجتمع أهم مخرجى العالم لتصوير مشهد مثله لفشلوا فى الوصول إلى حقيقته وطبيعيته الشديدة.
عيون الأطفال الفلسطينيين وخطوات العجائز منهم فى رحلة العودة كلها ترقب وأمل، فهم ربما لن يجدوا بيوتهم بفعل آلة الدمار الإسرائيلية التى شنت حرب إبادة على القطاع فى أكثر من عام. ربما يجدون أطلالًا أو أنصاف بيوت، ربما يجدون ذكرياتهم وقد علقت على جدرانها الباقية أو مخلفات هدمها. هم يعودون إلى مناطق خراب دمرها الجيش الإسرائيلى، بانتظار ١٣٥ ألف خيمة ستؤويهم من برد الشتاء، ولكن المهم هو العودة المدهشة إلى الأرض، ثم انتظار بناء ما كان لهم فى هذه الأرض.
المشهد مثلما هو مدهش كما قلت، فهو دالّ أيضًا. دالّ على أن الفلسطينيين أصحاب قضية وأصحاب حق. دالّ على أنهم دفعوا الثمن غاليًا فى سبيل أرضهم التى حاول الإسرائيليون محوها من الوجود. المشهد دالّ على موقفهم الواضح والراسخ بأنهم لن يتركوا بيوتهم ويذهبوا إلى أوطان أخرى أو إلى أرض بديلة.
مشهد عودة الفلسطينيين الذى رأيناه هو أبلغ رد على تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى يبدو أنه لم يعرف الفلسطينيين بعد، بل لم يعرف أبدًا قوة وعزيمة أصحاب الأرض- أى أرض- ولا يعرف ما معنى الأرض بالنسبة للعرب والفلسطينيين، أصحاب الحضارات القديمة التى تمتد جذورها إلى آلاف السنين.
مشهد الزحف الشعبى الفلسطينى إلى الشمال هو أبلغ رد (سياسى) يمكن البناء عليه فى مسألة الوصول إلى تسوية سياسية شاملة، تعيد الحق إلى أصحابه، وتُعلى من حل إقامة الدولتين. المشهد كذلك- وبشكل مباشر- هو انعكاس بصرى وإنسانى للموقف المصرى السياسى الرافض لتصفية القضية الفلسطينية، والرافض لتهجير أصحاب الأرض وأصحاب الحق، وإيجاد أوطان بديلة لهم. الموقف المصرى ليس رفضًا للفلسطينيين بكل تأكيد، فهم وغيرهم ممن تعانى بلادهم ويلات الصراعات مُرحَّب بهم فى وطنهم مصر، ولكنه رفض للقضاء على الهوية الفلسطينية، وعلى دولة قديمة قدم التاريخ، وعلى شعب عانى كثيرًا فى سبيل نَيْل حريته، وحقه فى العيش على أرضه التى ورثها عن آبائه وأجداده. مشهد العودة والموقف المصرى هما صورة تُدرَّس لفكرة التمسك بالوطن، تلك الصورة التى نود جميعًا أن نراها من الشعوب العربية جميعًا. مشهد العودة بكل تأكيد ليس الانتصار الذى تسوقه جماعة سياسية أو مهووسون بها، بل هو انتصار لرغبة الفلسطينيين فى الحياة، وتحديدًا فى وطنهم الذى لا وطن لهم غيره.