بقلم : عبد اللطيف المناوي
رحل محمد بن عيسى، لكنه لم يترك وراءه مجرد سيرة ذاتية لمسؤول حكومى أو دبلوماسى، بل ترك إرثًا ثقافيًا وإنسانيًا سيظل محفورًا فى ذاكرة مدينة أصيلة والمغرب بأسره. كان رجلا استثنائيًا، لم يقف عند حدود المناصب الوزارية والدبلوماسية، بل جعل الثقافة مشروع حياة، وأصيلة مختبرًا لرؤاه التى جمعت بين الفن والتنمية والانفتاح على العالم.
فى كل مرة يأتى ذكر بن عيسى يحضرنى صوته وهو يسير بين ضيوفه مصفقا معلنا بداية جلسة جديدة من جلسات الحوار الحر المستمر منذ أقل من نصف قرن بقليل.
حين بدأ بن عيسى مشروعه فى أصيلة عام 1978، لم تكن المدينة سوى بقعة صغيرة هامشية، تعانى من التهميش والإهمال. لكنه امتلك حلمًا جريئًا: أن يجعل منها منارة ثقافية، حيث تصبح الثقافة أداة للتنمية، وليس مجرد ترف فكرى. لم يكن ذلك شعارًا فارغًا، بل رؤية طبّقها على الأرض، من خلال تنظيم مهرجان أصيلة الثقافى الدولى، الذى استقطب على مدى عقود كبار المفكرين والفنانين والشعراء من مختلف أنحاء العالم. كان يؤمن بأن الحوار الثقافى هو الطريق نحو بناء مجتمع منفتح ومتعدد، ولذلك جعل من أصيلة فضاءً عالميًا للتلاقح الفكرى.
لم يكن بن عيسى يرى أصيلة مجرد مدينة، بل كان ينظر إليها كفكرة، كنموذج يمكن أن يُحتذى به فى أماكن أخرى. فهو لم يكتفِ بجلب المثقفين والفنانين، بل ركّز على تحسين جودة الحياة لسكانها، من خلال مشاريع بنية تحتية، وتنظيف الشوارع، وإدخال مفهوم الجمال فى الفضاء العام عبر الجداريات الفنية التى أصبحت سمة مميزة للمدينة. كان يردد دائمًا: «إذا نشأ الطفل فى بيئة جميلة، فسيكون عقله جميلًا». لذلك كان الأطفال جزءًا أساسيًا من مشروعه، حيث شاركوا فى رسم الجداريات وتعلموا قيمة الجمال والإبداع منذ الصغر.
على الرغم من تقلده مناصب رفيعة، مثل وزير الثقافة، ثم وزير الخارجية، وسفير المغرب فى واشنطن، لم يفقد بن عيسى صلته بأصيلة أبدًا. حتى عندما كان يتنقل بين العواصم الكبرى، كان عقله وقلبه هناك، حيث نشأ وحلم وأبدع. لم يكن يرى تعارضًا بين السياسة والثقافة، بل كان يعتبر الدبلوماسية امتدادًا للثقافة، والعكس صحيح. كان مؤمنًا بأن الثقافة تمنح الدول قوة ناعمة، وتجعلها أكثر حضورًا وتأثيرًا فى العالم.
برحيله، تخسر أصيلة روحها الحارسة، لكن إرثه لن يموت. فالمهرجان الذى أسسه لايزال مستمرًا، والمدينة التى نهض بها ستظل شاهدة على جهوده. التحدى الآن يكمن فى الحفاظ على هذا المشروع، وعدم السماح له بالانهيار بعد فقدان مهندسه الأول. وكما قال أحد المقربين منه: «أصيلة اليوم عند مفترق طرق.. فإما أن تكون، وإما ألا تكون».
محمد بن عيسى لم يكن مجرد مسؤول، بل كان حالمًا ومناضلًا، جعل من الثقافة سلاحًا ومن أصيلة رسالة. رحل الجسد، لكن الفكرة باقية، لأن الأفكار العظيمة لا تموت.