بقلم : عبد اللطيف المناوي
فى العقود التى تلت الحرب العالمية الأولى، كانت اتفاقية «سايكس- بيكو» رمزًا لتقسيم العالم العربى وتفتيته لصالح القوى الاستعمارية الغربية. الاتفاقية، التى وُقّعت سرًّا عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، قسّمت الأراضى العثمانية العربية إلى مناطق نفوذ، وقُسمت حدود الدول الحديثة فى الشرق الأوسط بناءً عليها، بشكل اعتبره العديد من المفكرين العرب والإسلاميين فى القرن العشرين أساسًا للتجزئة والضعف العربى. لكن مع مرور الوقت وتغير الظروف، بدأ البعض ينظر إلى هذه الحدود التى رسمتها الاتفاقية كضرورة لا غنى عنها لضمان الاستقرار النسبى فى المنطقة.
أصبح التحول فى النظرة إلى اتفاقية سايكس- بيكو مفهومًا للأسف فى ضوء الأوضاع الراهنة فى العالم العربى. هناك عدة عوامل دفعت إلى هذا التغيير فى الموقف.
الواقع العربى المهدد بالتفتيت هو أحد أهم عوامل التحول، فقد شهد العالم العربى منذ عام 2011 موجة من الثورات والاحتجاجات سُميت زورًا «الربيع العربى»، ظن البعض أنها سوف تحقق تغييرات ديمقراطية واجتماعية، لكن النتائج جاءت كارثية، حيث غرقت دول مثل سوريا وليبيا واليمن فى أتون حروب أهلية مدمرة. وظهرت على السطح دعوات إلى تقسيم هذه الدول إلى كيانات أصغر على أسس عرقية أو طائفية. على سبيل المثال، فكرة تقسيم سوريا إلى دويلات على أسس طائفية أو تقسيم ليبيا إلى دويلات شرقية وغربية، أصبحت تُطرح كأحد الحلول «الواقعية» لمشكلة النزاع المستمر. وانضمت إلى تلك الدول دولة كبيرة مثل السودان، التى تواجه مستقبلًا مجهولًا، تبدو فيه السودان مفتتة.
كان صعود الهويات الفرعية وإضعاف الدولة المركزية التى ظهرت فى سياق الحروب الأهلية والتوترات الطائفية، مثل الانتماء الطائفى أو العرقى على حساب الهوية الوطنية الجامعة. على سبيل المثال، فى العراق، تصاعدت الهويات الشيعية والسنية والكردية، ما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعى وإضعاف الدولة المركزية. هذا الصعود يُعزز المخاوف من أن أى محاولات لتغيير الحدود ستؤدى إلى تفتيت الدول إلى دويلات طائفية أو عرقية ضعيفة غير قادرة على حماية سيادتها أو مواجهة التحديات الإقليمية.
وكان الخوف من فراغ السلطة أحد المخاطر الحقيقية. تجربة ما بعد سقوط أنظمة قوية فى العالم العربى مثل العراق وليبيا وسوريا أظهرت أن انهيار الدولة المركزية يؤدى غالبًا إلى فراغ فى السلطة يُملأ بواسطة جماعات مسلحة أو تنظيمات إرهابية كـ«داعش» و«القاعدة».
هذه التهديدات بالتقسيم جعلت البعض يُعيد التفكير فى اتفاقية سايكس- بيكو، إذ رأوا أن الحدود التى رسمتها، رغم عيوبها، حافظت على وحدة الدول العربية لفترة طويلة. ومع تفاقم الانقسامات الداخلية، أصبح الحفاظ على الوضع القائم، حتى لو كان نتيجة اتفاقية استعمارية، أهون الشرَّيْن مقارنةً بخطر انهيار الدول بالكامل.
إنها مفارقة تاريخية محزنة أن الاتفاقية، التى كانت تُعتبر لسنوات رمزًا للتجزئة، أصبحت الآن تُعتبر خيارًا للحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة والاستقرار.