بقلم : عبد اللطيف المناوي
جرت العادة أن يُقيَّم أداء أى رئيس جديد بعد مرور مائة يوم على توليه السلطة، وكأن هذا الرقم السحرى يمنحنا نظرة أولى على ملامح العهد الجديد. لكن فى حالة دونالد ترامب، وبعد مرور ٧٧ يوما فقط على تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، يبدو كأننا عشنا أكثر من مائة يوم، بل ربما مائة عام من التوتر والتحولات السريعة. فمنذ وصوله إلى البيت الأبيض، لم يتصرف ترامب كرئيس تقليدى، بل بدا كمن يقود قاطرة بلا فرامل، محطما قواعد اللعبة السياسية والدبلوماسية، ومربكا خصومه وحلفاءه على حد سواء.
فى الداخل الأمريكى، أطلق ترامب العنان لما سماه «استعادة أمريكا»، لكنها جاءت بصيغة عنيفة ومباغتة. شن هجوما متواصلا على المؤسسات، من القضاء إلى الإعلام، واتهمها بأنها جزء من «الدولة العميقة» التى تسعى لإفشاله. تبنى سياسة اقتصادية حمائية، فألغى أو أعاد التفاوض على عدد من الاتفاقيات التجارية. فى ملف الهجرة، أصدر قرارات تنفيذية مثيرة للجدل، ما أدى إلى موجة من الطعون القضائية والاحتجاجات. كما بدأ الإعداد لتخفيضات ضريبية واسعة النطاق، ركزت على الشركات والأثرياء، وُصفت بأنها تعمّق الفجوة الاجتماعية بدلا من ردمها.
أما على الساحة الدولية، فقد بدا ترامب كمن يخلط أوراق العالم لا لإعادة ترتيبها فحسب، بل لإعادة تعريفها من جديد. رغم أن دولا مثل بنما وجرينادا لم تكن على رأس اهتماماته، فإن خطابه العام حول السياسة الأمريكية فى أمريكا اللاتينية أعاد للأذهان شبح التدخلات العسكرية القديمة. فى الشرق الأوسط، اقترب أكثر من إسرائيل، وتبنى خطابها بالكامل. وخرج بمشروعه المثير للجدل بتفريغ غزة وتهجير أهلها لبناء منتجعات.
أبرز ما ميّز سياسة ترامب الاقتصادية الخارجية هو العودة إلى مبدأ الحمائية، وهو ما تجلى فى فرض تعريفات جمركية ضخمة على واردات رئيسية من الجميع، لا سيما من الصين، فى محاولة لإعادة التوازن التجارى. إلا أن هذه الإجراءات أصابت حلفاء أمريكا التقليديين أيضا، مثل الاتحاد الأوروبى وكندا والمكسيك، مما أدى إلى ردود فعل تجارية مضادة، وأثار قلقا واسعا من الدخول فى حرب تجارية شاملة. هناك من يعتبرها مقامرة تهدد النظام التجارى العالمى القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ما فعله ترامب خلال ٧٧ يوما فقط يكفى لتغيير ملامح السياسة الأمريكية لعقود مقبلة. لا يمكن اعتبار ما يحدث مجرد خطوات عشوائية، بل هو- بقدر ما يبدو فوضويا- يستند إلى رؤية ترامب الخاصة للعالم: أمريكا أولا، وكل شىء آخر يأتى لاحقا.. إن أتى أصلا. وبينما يرى أنصاره فيه منقذا يستعيد «أمريكا الحقيقية»، يخشاه خصومه باعتباره قنبلة موقوتة تهدد النظام الدولى، وتفكك التحالفات، وتفتح الباب أمام فوضى جديدة لم تتضح معالمها بعد. فهل سنشهد خلال ما تبقى من المائة يوم الأولى انفجارا آخر؟.
الزمن وحده سيجيب، لكن المؤكد أن الـ ٧٧ يوما الأولى من رئاسته بدت كأنها دهر كامل.