بقلم - هدى الحسيني
الانتفاضة التي حصلت في أكبر دولة إسلامية مساحةً على الإطلاق، كازاخستان، خلال الأيام الأولى من العام الجديد ربما ستكون نموذجاً لما ستكون عليه التطورات في العلاقات الدولية والصراعات بين القوى الفاعلة. حرب باردة مجدداً بين جبابرة العالم، تختلف عن حرب الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كونها لا تقوم على صراع آيديولوجي، فهناك تواصُل مباشر بين المتحاربين ولكن هي ككل الحروب، حرب توسُّع وسيطرة ونفوذ، وهناك الكثير من بؤرٍ للصراع أو مناطق تماسٍّ منها مثلاً وليس حصراً: تايوان، وكوريا الشمالية، وأوكرانيا، والقرن الأفريقي، وليبيا، وإيران، حتى لو تم الاتفاق مع الأخيرة على الملف النووي، لأن ما يطلبه الأميركيون هو خطة شاملة (التسمية الرسمية) تفتح فيها إيران حقبة جديدة من العمل الدبلوماسي السلمي بعيداً عن الحروب في دول المنطقة بواسطة الأذرع.
بالعودة إلى كازاخستان فإن الأحداث بدأت بقرار رفع سعر البنزين الذي أدى إلى انتفاضة شعبية فاجأت الدولة ورئيسها قاسم توكاييف، ليس فقط بقدراتها التنظيمية بل بجرأة المنتفضين وعنفهم، وقد قتلوا 8 من رجال الأمن ومكافحة الشغب في الساعات الأولى من الحوادث وتم اقتحام المباني العامة ومراكز الشرطة وحاولوا الدخول إلى قصر الرئاسة. وقد التحق عدد من رجال الأمن بالمنتفضين وبدت الأمور متجهةً وبسرعة نحو ثورة تطيح بحكم أوتوقراطي قمعي وفاسد. وقد قام الرئيس توكاييف بحل مجلس الوزراء التابع للرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، ووعد بتخفيض سعر البنزين، إلا أن أعمال الشغب توسعت إلى مناطق متعددة في مناطق بعيدة عن العاصمة. وقد أقدم الرئيس على إعلان منع التجول وتم قطع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي كانت قد أتاحت للمجموعات المنتفضة قدرة القتال المنسق والفاعل. كما أمر قوى حماية الدولة باستعمال الرصاص الحي بلا هوادة، فسقط عشرات القتلى في اليوم الثاني من الانتفاضة. وتم الإعلان عن طلب الرئيس من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وأهمها روسيا، أن ترسل قوات للمؤازرة في ضبط الأمن والحفاظ على الكيان، وهذا ما تسمح به المعاهدة، وهذه كان يمكن أن تشكّل فخاً للروس لو استمرت الانتفاضة وتوسعت وأخذت بُعداً دينياً مما يستوجب توسيع التدخل العسكري الروسي وبالتالي تشتيت قوته على أكثر من جبهة في العالم، عدا عن معاناة اقتصادية تسببها العقوبات الأميركية، لذلك بعد أن ضمنت روسيا الهدوء في الأماكن الاستراتيجية والحساسة، أوحت لتوكاييف بالطلب من قواتها الانسحاب بدءاً من اليوم (الخميس).
الانتفاضة التي حصلت لم تكن عفوية، أو كما يقال بنت ساعتها. الواضح أنه كان هناك تخطيط وتدريب وتنسيق بين مجموعات معارضة على فترة من الزمن وبسرّية تامة ومن الأرجح بدعم خارجي. ولقد ربط مصدر غربي مطّلع بين أحداث كازاخستان والصراع الدائر في أوكرانيا، حيث المواجهة الحقيقية هي بين روسيا والولايات المتحدة التي تدعم بشكل مطلق وعلني أوكرانيا في قضية شبه جزيرة القرم. وحذرت الحكومة الأوكرانية من اجتياح روسي في عمق الأراضي الأوكرانية. ومن جهتها حذرت الخارجية الأميركية من عواقب إقدام الروس على عملية اجتياح، وكان رد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن القرم هي أمر وجودي بالنسبة إلى بلاده. وكان اللقاء بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين بواسطة «زوم»، لقاءً بارداً ولم تتقارب وجهات النظر في الأزمة الأوكرانية. يقول المصدر الغربي إن أحداث كازاخستان وتدخل روسيا العسكري لمؤازرة النظام الكازاخي هما الفخ الذي سيشتت ويُضعف القوة العسكرية الروسية وبالتالي القدرة على التفاوض السياسي، ولأن حوادث كازاخستان لم تنتهِ بعد. ولوحظ أنه رغم قطع الإنترنت وكل وسائل التواصل الاجتماعي في كازاخستان، ظل المتابع قادراً على استشفاف ما يجري والقلق الذي انتاب روسيا، التي احتارت ما بين تسمية هذه الانتفاضة «ثورة ملونة» أو ثورة حقيقية، ثم إن ما أقلقها في كازاخستان ليس استفحال الصين في البلاد، بل ما يمكن أن يعبر من أطول حدود في العالم بين دولتين، كازاخستان وروسيا، أي من الأولى إلى الثانية، وأيضاً بروز حالة توتر في أوزبكستان وقيرغيزستان وتركمانستان (آسيا الوسطى).
تزامنت هذه الانتفاضة مع التفاوض النووي مع إيران الذي استمر في فيينا مع بداية العام، وخيّمت عليه أسرار التعتيم. لوحظ أن المتفائل الوحيد كان وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان، الذي ظل يؤكد ليسمع المرشد علي خامنئي عن إحراز تقدم «في رفع العقوبات»، إلا أن الناطق الأميركي نفى وجود تقدم، وأكد أنه حتى لو تم الاتفاق فإن موضوع الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة سيحصل بشكل تدريجي ومتلازم مع التثبت من تنفيذ الاتفاق الشامل. وتسعى إيران لمحاولة عرض العضلات في المنطقة فتطلق صاروخاً إلى الفضاء الخارجي ليفشل للمرة الخامسة وتطلق العنان لذراعها اللبنانية «حزب الله» لتأجيج الشارع ضد المملكة العربية السعودية وإحكام قبضته على لبنان ليكون ورقة تفاوض بيد إيران، وكذلك استمرار الذراع الأخرى في اليمن بإطلاق صواريخ باتجاه السعودية. وقد قامت الذراع الإيرانية في العراق بإطلاق صواريخ على القاعدة العسكرية الأميركية في عين الأسد، مع العلم أن الولايات المتحدة تدرك جيداً أن النظام الإيراني وأذرعته في أزمة ولا يملكون القدرة على البقاء طويلاً إذا استمرت المراوغة وإضاعة الوقت، فالمال هو عصب الحياة والوجود للنظام الإيراني، وهو سيبقى محجوراً إلى أن يلتزم بشروط الولايات المتحدة.
الملاحَظ أنه بعد توقف المال الإيراني كان على «حزب الله» أن يقوم بتمويل نفسه من مصادر مختلفة. فاستفاد من مرفأ بيروت الذي لفترة طويلة كان يسيطر على عملياته ويحصل على المال من بضائع تُهرَّب خارج النظام الجمركي اللبناني. وبعد انفجار المرفأ وتراجع الاستيراد بسبب الأضرار التي لحقت بإمكاناته وكذلك الأزمة المالية وضعف القدرة الشرائية في البلد، اتجه الحزب إلى مورد مهم من تهريب المخدرات، إلا أن هذا انحسر بعد انكشافه في الدول العربية الغنية التي توقفت عن الاستيراد من لبنان فألحق الحزب الضرر بكثير من المزارعين والصناعيين الحرفيين الذين كانوا يعتاشون من تصدير بضائعهم. بعد هذا اتجه الحزب إلى جني المال من تهريب البضائع المدعومة عبر الحدود مع سوريا وها هو الآن يحرم اللبناني، خصوصاً الفقير، من لقمة الخبز بتهريبه ربطات الخبز إلى سوريا، فإيران تريد تعويم نظام بشار الأسد، ليس على حسابها بل على حساب الفقير اللبناني، لأنه عندما توقف البنك المركزي عن سياسة الدعم توقف معه دخل «حزب الله». وقيل أن حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، أرسل إلى المرشد نداء استغاثة على أثرها حصل على الفيول الإيراني وبضائع استهلاكية تؤمّن مصدراً للدخل، ولكنّ إسرائيل قصفت ميناء اللاذقية مرتين ودمّرت مستوعبات قيل إنها تحوي سلاحاً وبضائع مرسلة إلى الحزب. وبكل اجتراء على اقتراف القبائح يأتي محمد رعد، من كبار شخصيات الحزب والذي «يرش» علينا دائماً تكشيرته، ويقول يوم الاثنين الماضي وهو جالس إلى جانب حليف الحزب رئيس الجمهورية ميشال عون: إن الحوار أكثر من ضرورة وندعو «شركاءنا في الوطن» إلى التحلي بالعقل والحكمة والتخلي عن المزايدات «والتفكير» (هو يريد أن يفكر عن اللبنانيين)، لأننا (...) نحن، المواطنين اللبنانيين فقط، أسياد هذا البلد!
ربما لم يسمع محمد رعد ما قاله أحد المنتمين إلى الحزب الذي اشتكى من كونه يعيش جو الانتصارات والعزة والكرامة، وطالب بالعيش مثل المهزومين «الذين انتصر عليهم الحزب»، ويشرح معنى المهزوم: يعني أن في لبنان كهرباء وماء، وبحر نظيف وكل مقومات الحياة الكريمة متوفرة لهم. ربما كان اهتمام محمد رعد برفع صور قاسم سليماني وتماثيله حتى في برجا، القرية السنية الصرف، مما أثار حفيظة أبناء المنطقة. أيضاً لو أن رعد وأسياده يرون طريق مطار طهران المزروعة بالأشجار الخضراء والمزيّنة بنوافير المياه، بينما طريق مطار بيروت قبيحة وعن قصد تنتشر عليها صور سليماني قاتل أطفال لبنان وسوريا واليمن والعراق، ولا تجرؤ الدولة على تنظيف هذا الطريق الذي يعد بمثابة غرفة استقبال لبنان، وقد زاد الحزب في ولائه لإيران بأن زرع زيتونة سليماني ونشر صور «وجهه البهيّ» في مناطق الحزب في لبنان، ولا نعرف كيف فات الحزب أن يعلّق صورته محل صورة حليفه الحي ميشال عون.
علينا أن نعترف بأن «حزب الله» وحركة «أمل» الشيعية، فَعَلا كل ما في وسعهما من أجل شل البلاد وفرض حكمهما. لقد بدأ التذمر والاستياء من «حزب الله»، وكيل إيران الإرهابي في بيئته، لكنّ الخبراء يقولون إنه من غير الواقعي الاعتقاد بأن قبضة «حزب الله» الحديدية على البلاد ستضعف. في 27 ديسمبر (كانون الأول) انتبه الرئيس عون إلى أن لبنان «ينهار» فقدم ما يمكن عدّه مطلباً مستتراً لـ«حزب الله» يحثه على تخفيف قبضته على السياسة اللبنانية.
لقد أدت سيطرة «حزب الله» المطلقة على لبنان إلى الانهيار الاقتصادي الكارثي الحالي.
كان تحالف عون مع «حزب الله» هو الذي سمح له بتولي رئاسة البلاد في عام 2016، وقد أتاح دعم حزبه المسيحي الماروني للحزب بفرض هيمنته حتى عليه.
إن تخليص لبنان من «حزب الله» يجب أن ينتظر، حتى يدفع بالبلاد إلى «ما بعد بعد جهنم». من أجل الولي الفقيه جعل لبنان على خلاف مع دول مجلس التعاون الخليجي، لقد انتقدت المملكة العربية السعودية القادة والمسؤولين اللبنانيين الذين تورطوا في الأزمة ورفضوا مواجهة «الفيل في القاعة»، ولننتظر الآن ماذا ستفعل الدولة اللبنانية والحزب يحتضن مؤتمراً ضد السعودية. إنها دعوة الحزب لتقسيم لبنان، فليتفضل أتقسيماً أراد أو حرباً، لم يعد مهماً، لأن الحالة القائمة، حيث لبنان «رهينة حزب» يتلقى تعليماته من طهران وينفذها، لم تعد محتمَلة.