مأمون فندي
«مقارنة بما يحدث في سوريا إحنا زي واحد جرح إصبعه وعامل عليه ضجة في الوقت الذي جاره عنده مأتم»؛ قالت فتاة كويتية في أوائل العشرينات من العمر. قالت: «لديّ أصدقاء من سوريا ومن مصر فقدوا بعضا من أفراد عائلاتهم في صراع حقيقي على السلطة أستحي أن أشرح لهم لماذا ذهب رجالنا إلى الشارع وما هي مطالبنا؟ وكما نريد - ككويتيين - سيارة على الموضة، نريد ثورة على الموضة، نريد ثورة رغم أننا لا نملك أي أسباب حقيقية للثورة». كلام صادم من شابة كويتية، ولكنها ذكرتني بكلام للبروفسور تشارلز عيساوي من جامعة برنستون الأميركية وهو واحد من أعظم أساتذة التاريخ الاقتصادي عندما قال لي وبنفس الطريقة الصادمة عندما سألته عن مأساة العرب تحت الاستعمار، وكان هذا بعد غزو العراق للكويت، فقال: «مقارنة بالسود الذين جاءوا في سلاسل إلى العالم الجديد ومقارنة بالهنود واستعمار بريطانيا لهم، فإن معاناة العرب تبدو نوعا من الترف والرفاهية». وكان هذا أيضا رأيا صادما لي، حيث كنت أتصور أن معاناتنا هي أهم قضايا يجب أن ينشغل بها العالم. ثم قارنت بالفعل ووجدت أن مأساتنا ليست بتك الدرجة الكبيرة من الأهمية مقارنة بمعاناة السود أو الهنود كما قال. هذا النوع من الكتابة يجلب عليك في الكويت «صجة ولجة» كما يقول البدو، لأن نرجسية الثورات ليس عندها مكان لرأي مخالف، أو حتى تفسير، ولا أدعي تفوقا أخلاقيا هنا، فلما كنا في ميدان التحرير قبل سقوط مبارك لم نكن نسمع لأحد، ولا نريد أن نسمع حتى أختطف الإخوان الثورة. ولكنني هنا لست ناصحا بقدر ما أحاول فهم الحالة الكويتية التي هي الأولى في الخليج، وعيون الإخوان الذين ينقبون عن النفط عليها، وكذلك عليها عيون المعارضين لحكم الإخوان. فإن الإخوان دون دولة نفطية قد يفلسون وبدولة نفطية قد يحكمون.
الكويت حالة تستحق التحليل فهي بلد السبع حكومات والسبع مسيرات. سبع حكومات لرئيس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد سقطت، وتلتها سبع مسيرات شعبية. أستطيع أن أكتب هذا اليوم لأن ما يسمى الحراك في الكويت فقد ما به من جذوة. فإذا ما رسمنا خطا بيانيا للسبع مسيرات الكويتية التي كانت تشغل الفضائيات من آن لآخر منذ النصف الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) في العام الماضي؛ حيث بدأت أول مسيرة كبرى في الكويت وفي مواقع مختلفة بلغت الآلاف وفرقتها فقط القوات الخاصة واستمر هذا الزخم في مسيرتين أخريين تلتاها حتى بدأت الحكومة ترخص المسيرات بداية من شهر ديسمبر (كانون الأول) في العام الماضي حيث قلت نسبة المشاركة في المظاهرة الخامسة إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص، ثم المسيرة السادسة التي حضرها ما يقرب من خمسمائة شخص حتى المسيرة السابعة والأخيرة التي شارك فيها العشرات، إذا ما تتبعنا هذا الخط التنازلي للمشاركة في المسيرات نجد أن الحراك فقد زخمه «ووصل إلى درجة تستحي معها المعارضة الآن من أن تدعو إلى مسيرة»، على حد قول سعد السعيدي مدير مكتب «الجزيرة» بالكويت.
فهل سبب هذا النزول الحاد في نسبة المشاركة في المسيرات هو أنه لا يوجد وقود لثورة في دولة تتبنى مواطنها من المهد إلى اللحد صحة وتعليما وإسكانا وقروض بنوك يطالب البعض بإسقاطها تماما والبعض الآخر بإسقاط فوائدها فقط؟ أم أن من يدعون الثورية في الكويت فقدوا التعاطف لأن البعض يقارن ما بين آلام الناس في سوريا ومصر وتونس، وكذلك نتائج تلك الثورات، فيكتشف أن نتائج هذه الثورات لم تظهر نموذجا ملهما للتغيير؟ عندما سألت كثيرا من الكويتيين كان لكل منهم أسبابه: لماذا عزف الناس عن المشاركة فيما يسمى الحراك إذن؟ قال أحدهم وهو كاتب مميز في واحدة من الصحف الكويتية الليبرالية: «نحن لدينا حراك اجتماعي وليس حراكا سياسيا، فالمطالب في معظمها تقع ضمن الحيز الاجتماعي لا السياسي لأننا متفقون على النظام السياسي».
وقال رئيس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك الذي حاورته لمدة ساعتين في مكتبه «إن السبب الرئيسي في تراجع الحراك هو أن أهل الكويت اكتشفوا أن هذه الجماعات تسوق البلد في اتجاهات الولاءات القبلية والطائفية الأدنى، بينما أمير البلاد وحكومته يحاولان تعزيز دولة المواطنة. أحدنا يريد السير بالبلد إلى عالم القبائل والطوائف والأمير يريد أن يأخذنا إلى عالم الدولة الحديثة والمواطنة».
ويرى رئيس الوزراء الكويتي أيضا أن الانتخابات البرلمانية والصوت الواحد وما أفرزته هذه التجربة، كانت عاملا رئيسيا في تهدئة الأوضاع، إذ أتاحت الانتخابات لجماعات مختلفة كانت لا تمثل في النظام القديم بأن تمثل الآن، وطرحت على الحكومة والمجلس الجديد تحدي الإنجاز، والناس في الكويت يحترمون الإنجاز لا المسيرات. العالم يفهم أن لكل مواطن صوتا واحدا، أما ما كانت تطالب به المعارضة، إذا صحت التسمية، هو أربعة أصوات لكل مواطن، وهو أمر غير مفهوم لكل العالم، لذلك لم تجد المعارضة أي تعاطف دولي. ثم إننا لسنا مجتمعا منقسما على نفسه. نحن لدينا، رغم كل هذا، تناغم اجتماعي وقبول بنظام الحكم، رغم النعرة الطائفية والقبلية التي تبرز على السطح أحيانا. هكذا يرى، رغم أنه أوضح في المقابلة كثيرا من الأمور الكاشفة للوضع في الكويت سواء فيما يخص الحركات الإسلامية في الكويت وتمويلها ودعمها لحركات أخرى في الإمارات وغيرها وحديثه عن إيران ودورها في الكويت والمنطقة وعن ملفها النووي وكثير من القضايا التي ستنشر في المقابلة.
المهم في كل هذا هو أن الوضع في الكويت يعود تدريجيا إلى الاستقرار، وقد يكون للحراك دور كبير في زيادة نسبة المشاركة من قبل كل فئات الشعب الكويتي في الانشغال والانخراط في العمل العام. الحراك الذي كانت جماعة الإخوان المسلمين والقبائل، جزءا كبيرا منه، أنتج أيضا قوى مدنية وحضرية مضادة في المقابل، قوى مدنية تتحدث عن الكويت كبلد للجميع. هناك خط فضي تحت الغمامة، كما يقولون بالإنجليزية. ومع ذلك تبقى رغبة بعض الكويتيين «إحنا كمان عاوزين ثورة» رغم عدم وجود قضايا جوهرية جامعة، مطلب لزوم الشياكة الثورية أو شياكة الحراك، ثورة برتقالية حتى لو كان البرتقال مستوردا. ثورة بمحركات ذات دفع رباعي مثل كل السيارات التي يركبها أهل الكويت ببنزين مدعوم من الدولة.
تجربة الكويت الديمقراطية هي حياة داخل حضانة تحميها قوى دولية عالمية من جوار يريد التهامها كما التهمها صدام حسين من قبل. لو سحب الأكسجين الدولي عن هذه الحضانة لأصبحت في ورطة حقيقية. بالكويت فساد يراه الناس، وأشار إليه رئيس الوزراء في مقابلته، يغذي الحراك الشعبي، لا بد أن تتصدى له الحكومة، ولكن أيا كان ذكاء المحلل للحالة الكويتية فإنه يرى المعارض الفلاني مستشارا للوزير الحكومي الفلاني أو صاحب الصحيفة المعارضة مع فلان من أهل الحكم. كنا في مصر نقول في السابق: في مصر «كل واحد إيده في جيب اللي جنبه» كناية عن استشراء الفساد، ولكن ما يعقد الأمر في الكويت أن كل واحد يده في يد اللي جنبه؛ أهل الحراك وأهل الحكم، لنكون أكثر تهذيبا. وكما يقول أهل الكويت لا تدري بعد أن ترى تشابك الأيدي والعلاقات «شنو السالفة؟».
نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"