مأمون فندي
أول أكليشيهات الثورة التي نكررها كل يوم هو أن المصريين قد كسروا حاجز الخوف. في هذا المقال سأضع نفسي في مواجهة مع العقل التسلطي المصري، مدعيا أننا لم نكسر حاجز الخوف بل لم نفتح «خرما» واحدا في جدار الخوف، وأتمنى أن أكمل كتابة المقال كله بلا خوف من حراس الدين الذين قد يخرجونني من الملة ومن دون خوف من حراس الوطنية الذين لن يتورعوا في أن يرموا من يخالفهم الرأي بالعمالة والخيانة. أعرف مسبقا أيضا أن مقالات المواجهة إن لم يكن مصيرها التخوين أو التكفير، فهناك خيار ثالث أبدع فيه العقل المصري وهو خيار التجاهل. الثقافة المصرية تتجاهل ما ينتقد منظومة مفاهيمها الحاكمة، فمن يتربعون على العرش لن يزعزعهم نقد ما داموا قادرين على تجاهل الأزمة. وقد تجاهل مبارك الوطن كله لمدة ثلاثين عاما ولم يحدث له شيء.. فقط البيولوجيا والعمر واهتراء النظام السياسي جعل البيت يقع على من فيه، وها نحن وهو يسقط، كلنا يعلن أنه هو الذي أسقطه ولا بد أن يكون له نصيب في تقسيم التركة. لا نستطيع أن نقول إن الثورة في 25 يناير (كانون الثاني) والخروج في الشوارع كانت هروبا من بيت قديم ينهار على رؤوسنا فخرجنا إلى الشوارع والميادين بغية السلامة، يمنعنا الخوف ممن يدعون أنهم أصحاب الثورة ويجعلنا مترددين في قول هذا.. ففي مصر لم ينكسر حاجز الخوف.
في هذا الصدد تحضرني مقولة أخرى في شأن الثورة لا نستطيع أن نقولها لهاجس الخوف.. مثلا درسنا في كلاسيكيات العلوم السياسية ما يعرف بـ King’s Dilemma المعروفة والتي لا أرى داعيا لإيضاحها.
ما أريد أن أقوله هنا إن استمرارية مبارك في الحكم لثلاثين عاما جعلت منه ملكا ليس بالمعنى القانوني وإنما بمعنى الأمر الواقع (not de jure but de facto). كان حكم مبارك يقل قليلا عن حكم محمد علي باشا الذي أسس الأسرة المالكة في مصر والتي انتهت بالثورة على الملك فاروق أو الانقلاب على حكمه من مجموعة من ضباط الطبقة الفقيرة التي حدثها الملك وسمح لها بدخول الكلية الحربية. مبارك قام بعملية تحديث ممنهجة لخدمة ملكه وخدمة مشروع التوريث. نشر شبكة خطوط تليفونية جعلت التواصل ممكنا من النجوع إلى العاصمة، ونشر الإنترنت وشبكات الاتصال، ولكنه فشل في إدارة مواءمة المؤسسات مع سرعة التحديث ومساحته، فانقلب عليه الناس وقوضوا ملكه.. مثلما حصل مع فاروق في مصر ومع السنوسي في ليبيا ومع ظاهر شاه في أفغانستان. إذن، لم يكن عهد مبارك سيئا جدا من حيث التحديث على مستوى القاع، ولكنه فشل في صناعة مُلك له ولولده على غرار محمد علي. هذا الكلام الذي يبدو تطبيقا حرفيا لنظرية King’s Dilemma لا نستطيع أن نقوله لأن حاجز الخوف ما زال قائما.. خوف من حراس الثورة ومن حراس الوطنية.. خوف بعضه فوق بعض كظلمات بطن الحوت التي عانى منها يونس.
أيضا لأن حاجز الخوف لم ينكسر لا نستطيع أيضا أن نتحدث بصراحة عن أن ظاهرة الإخوان اليوم هي نتاج تقسيم العمل الذي حدث في نهاية عصر مبارك منذ عام 2000 عندما بدأت الشرعية في التأكل، فقرر صفوت الشريف وجماعته أن يكون الحكم والدولة لنظام مبارك ويترك الشارع للإخوان، وليس الشارع بمعناه الحرفي ولكن أيضا الإعلام، فقد كانت تتقاسم جماعة الإخوان مع الدولة صفحات «الأهرام» و«الأخبار»، حيث كانت الصفحات الأولى للدولة وصفحات الرأي للتيار الديني. إخوان اليوم أيضا هم نتاج عصر مبارك ولو كانت هناك محاكمة واجبة للنظام فكان من المفروض أن تكون عن تقسيم الدولة بين نظام تأكلت شرعيته وبين التيار الديني من دون رأي للشعب في ذلك. أموال جماعة الإخوان المسلمين تضاعفت وشركاتها توغلت وتغولت لتصبح منافسا حقيقيا في معادلة الاقتصاد المصري، وأصبح رجال أعمال الإخوان مثل خيرت الشاطر وحسن مالك إضافة إلى مئات الشركات الصغيرة هم من يحددون حركة البورصة المصرية. الإخوان، اقتصادا وسياسة، ترعرعوا في عهد مبارك ولم نناقش هذه الظاهرة بما يليق بها لأن حاجز الخوف لم ينكسر.
لأحاول معرفة ما إذا كان حاجز الخوف قد انكسر بين المصريين أم لا، قررت أن أقارن ماذا قالت تلفزيوناتنا مثلا عن الحكومة الانتقالية في فترة المجلس العسكري الذي آل إليه الحكم بعد مبارك أيام المشير محمد حسين طنطاوي، وما تقوله تلفزيوناتنا اليوم عن حكومة حازم الببلاوي التي آل إليها الحكم بعد محمد مرسي تحت رعاية وعين الفريق أول عبد الفتاح السيسي. حكومة عصام شرف وما بعدها كان بها الثلثان تقريبا ممن عملوا مع نظام مبارك، وحكومة الببلاوي بها نصف دستة ممن عملوا مع مبارك ونصف آخر ممن عملوا مع مرسي. ومع ذلك كان خطاب التلفزيون في الحالتين لا يقترب من النقد، بل سادت نغمة أنها مرحلة انتقالية وتسيير أعمال وكلام من قبيل: لنعط الحكومة فرصة كي تدير شؤون الناس. لم يقدم السرد التلفزيوني لا معايير للنقد ولا معلومات عن الوزراء وتاريخهم وعلاقاتهم.. فقط، فلان مفكر اقتصادي أو سياسي وله باع ولا ندري باع في ماذا؟ أين تعلم؟ وما هي إنجازاته؟ وما علاقته بالنظام القديم؟ قلة قالت إن هشام قنديل كان مدير مكتب وزير الري وقالت إننا ننتقي من الصف الثالث لنظام مبارك، وقلة الآن تستطيع أن تقول إن زياد بهاء الدين مثلا كان الرجل الثاني بعد محمود محيي الدين في وزارة الاستثمار، وإن قلت شيئا كهذا تم تجاهله.. لك الحق في القول ولكن من في الحكم لا يستمعون إليك. وقد كتبت مقالا أيام حكم مبارك تعليقا على ما كان يروج له بحرية الرأي كان بعنوان «الدولة الطرشة»، أو الدولة التي لا تسمع، أي أنه كان من حق المواطنين أن يقولوا ما يريدون وكان أيضا من حق مبارك ونظامه أن يصموا آذانهم. حرية التعبير في النظم الديمقراطية تعني أن من حق الفرد أن يجد إجابة لما يقدمه من نقد للنظام، وليس مجرد كلام في الهواء يتبعه «طناش» من قبل الدولة.
لا نستطيع أن نتحدث عن حالة «الطناش» الحالية، لأن حاجز الخوف لم ينكسر بعد.
لم ينكسر الخوف أيضا على مستوى اللغة، فلغتنا بعد الثورة هي ذات لغتنا الخائفة والحريصة بعد الثورة.
تقسيم المجتمع إلى إخوان وعسكر فرض على الجميع أن يقف مع طرف لا ينتقده، لأن هذا قد يشق الصف أو يقوي الطرف الآخر. فلا الواقفون مع الجيش لديهم الحس النقدي لمستقبل مصر في ظل دولة يتحكم الجيش في مفاصلها، ولا من يقفون مع التيار الديني قادرون على نقد مرشد الإخوان وسياساته التي ورطت مصر وأفلستها في سنة واحدة. الخوف انكسر من حيث البجاحة ضد الخصوم ولكن الخوف لم ينكسر داخل أي معسكر. ما زال هناك من يدعون أنهم حراس الدين ومن يقول غير قولهم فهو كافر، وما زال هناك من يدعون أنهم حراس الوطنية ومن يسطر حرفا خارجا عن نصهم فهو عميل وخائن. ترسيم الحدود بهذه الصرامة هو توزيع لمساحات الخوف لا إلغاؤها، والخوف في المساحات الأصغر أخطر بكثير من ذلك الخوف الذي كان موجودا في ظل نظام مترهل كنظام مبارك في آخر أيامه. الثورة تبدأ في رأس الفرد لا في الشوارع. وليس من الثورة في شيء استبدال استبداد بآخر. عندما ينكسر حاجز الخوف في الرأس وينتج لغة جديدة وخطابا جديدا وإعلاما جديدا.. وقتها فقط يمكننا الحديث عن كسر حاجز الخوف.