الجوع قريب وليس بعيداً كما يتصور البعض، ما عليك إلا أن تمشي في لندن أو نيويورك لترى من كان يملك يوماً ما ملقى على قارعة الطريق دون مأوى. ربما في رمضان يتركز الذهن أكثر على فلسفة الجوع، وبعد سياسة التجويع بوصفها سلاحاً للقتل والتي تمارسه إسرائيل في غزة، يصبح سؤال فلسفة الجوع سؤالاً وجودياً، وأن الجوع قريب ولو جغرافياً.
الكتابة عن فلسفة الجوع قليلة في الدراسات الاجتماعية، ومعظمها يتمحور حول قلة الموارد من أرض خصبة ومياه، ولكن الجوع مرتبط بقضايا أكبر جوهرها أخلاقي، رغم أن أموراً كإدارة الموارد وسلاسل التوزيع والنظام الاقتصادي العالمي جملة.
ومع ذلك ظني، ورغم مرور أكثر من رمضان يتجاوز الآلاف إلا أن إنتاجنا الفكري حول دراسات الجوع كمسلمين يبقى محدوداً، والسؤال لماذا؟ أو بالأحرى لماذا نتذكر الجوع متقطعاً في شهر رمضان فقط.
حسب الإحصاءات يعد العالم العربي ربما المنطقة الوحيدة في العالم التي ارتفع فيها معدل الفقر (على أساس خط الفقر البالغ 3.65 دولار) خلال العقد الماضي، من نحو 12.3 في المائة في عام 2010 إلى 18.1 في المائة في عام 2023. وهناك دول كثيرة في عالمنا العربي نصف سكانها تقريباً يرزحون تحت خط الفقر؛ إذ ينهشهم الجوع نهشاً.
بالطبع لدينا واحات من الغنى قليلة، ومعظمها في منطقة الخليج العربي، ومع ذلك حتى في تلك الدول الغنية، ما زالت الطبقة الوسطى صغيرة جداً مقارنة بالدول الصناعية.
الجوع ليس في غزة وحدها، ولكن هناك المجاعة في السودان الذي كان يوصف بسلة غذاء أفريقيا والعالم، والجوع في اليمن.
وحتى ليبيا النفطية تحولت إلى بلاد فقر؛ إذ اتسع الفقر فيها باتساع صحرائها.
هذا دعك عن الصومال واليمن وسوريا وبقية البلدان المنكوبة.
نحن لا نحس بهذا الجوع نتيجة الفجوة الموجودة بين العالم العربي الفضائي الذي نشاهده على الشاشات وبين العالم العربي الحقيقي على الأرض. نتأمل الشاشات ووجوه المؤثرين على «السوشيال ميديا» فنظن أننا ضمن العالم المتقدم، وأنه لا فقر عندنا مع أن الحقيقة غير ذلك.
ما عليك إلا أن تتأمل ملابس المذيع والمذيعة الأنيقة حتى تنسى أننا فقراء، ومع ذلك لو تأملت ملابس الضيوف لعرفت أن معظمها من بري مارك، اللون زاهٍ أما الخامات فينقصها كثير، فلا تجعل ضوء الشاشات يبعدك عن معرفة الواقع.
من الملاحظات التي سجلتها وبناءً على الأخبار التي نسمعها كل يوم ما يخص اتساع موائد الرحمن في العواصم الكبرى في العالم العربي، ولكن الجديد في رمضان هو نوعية من يجلسون على موائد الرحمن، فتلك الموائد التي كانت تعج بالفقراء قديماً نراها اليوم مكتظة ممن كانوا يمثلون عصب الطبقة الوسطى من الأفندية والموظفين، كل يجلس ويخفي وجهه خلف صحيفة حتى يحين موعد الإفطار.
بكل أسف دراسات الجوع والفقر في منطقتنا لم تحظ بما تستحق، وذلك طبعاً لأن ثقافتنا ترى أن الاعتراف بالحاجة نوع من العار يمس الشرف والرجولة وغير ذلك من المفاهيم الثقافية التي تصعب على الباحث الوصول إلى معلومات دقيقة حول الفقر والعوز والحاجة، فمعظم البيانات فيها نسبة كبيرة من الخطأ نتيجة ثقافة الحفاظ على الشرف والستر.
مهم أن تتبنى دولنا مشاريع بحثية جادة للوصول إلى أفضل أنواع القياس لفهم الجوع والفقر في منطقتنا؛ فالجوع كافر كما يقولون، وإن سياسات الجوع والتجويع قد تفاجئنا في يوم من الأيام باضطرابات اجتماعية لا قبل لنا بمواجهتها.
نتذكر الجوع في رمضان، أي شهراً في السنة، ولكن خريطة الجوع باتت تتمدد جغرافياً بمساحة المكان كما أضحت زمانياً تتسع لكل شهور العام، ولذلك يجب أن نفطن لتبعات خريطة الجوع في منطقتنا، ونطور مفاهيم ومقاييس جديدة تجعلنا قادرين على قياس معدل الفقر في بلداننا بشكل أفضل.
ويبقى السؤال الأكبر الخاص بتطوير فلسفة للجوع ليس مجرد كليشيهات نكررها كل رمضان، بل فلسفة أعمق تأخذنا إلى فهم الأسس التي تقوم عليها مجتمعاتنا، فالمجتمعات بناءً، وما بُني على هشاشة ينهار في توقيت لا نتحسب له.
إن تذكُّرنا الجوع والفقر في رمضان أمر محمود، ولكنه لا يعفينا من تأمل الظاهرة في بقية شهور السنة.