«أنا مش عارفني»

«أنا مش عارفني»

«أنا مش عارفني»

 العرب اليوم -

«أنا مش عارفني»

بقلم : مأمون فندي

تشظي الهوية وتفككها هما أول المؤشرات للتصدع في البناء الاجتماعي٬ وعلامة من علامات تآكل فكرة الإحساس بالانتماء داخل المجموعات الصغيرة أو الأوطان٬ ولكنها تتجلى في صورة مبالغ فيها أو متطرفة٬ كأن تقول مثلا إن «بريطانيا من أحسن الدول». إحساس متطرف بتفوق المجموع مقابل جماعات أخرى يأتي بدافع تقوية الإحساس بالهوية الشخصية أو الفردية٬ والعكس صحيح٬ فمثلا التركيز على ضياع الهوية الشخصية هو نتيجة لإحساس عميق بتفسخ هوية المجموع٬ سواء أكان العائلة أم القبيلة أم الوطن٬ ومن هنا يمكن قراءة الأغنية الشعبية المصرية على أنها نتيجة إحساس بتهديد الهوية في وطن قديم قلما تهددت هويته حتى بالأحداث الكبرى٬ مثل الاستعمار أو فيضانات النيل.

«أنا مش عارفني٬ أنا تهت مني٬ أنا مش أنا»٬ هكذا تبدأ أغنية عبد الباسط حمودة التي تجسد الأزمة الإنسانية والأسئلة الوجودية للشخصية المصرية المعاصرة المهددة ا يتغلب فيها الغيبي والحظ على تملك الإنسان من أدواته بشكل عقلاني يحدد

بضياع داخلي٬ ورفض للخارج في حالة كلاسيكية تعبر عنها مجموعة أغان شعبية ظهرت حديث مسار حياته٬ وانعكست تلك الحالة الغيبية الرافضة لقدرة الإنسان على تشكيل مسار حياته والاعتماد على ضربة الحظ. فالثورات المصرية في 25 يناير (كانون الثاني) ٬2011 وكذلك 30 يونيو (حزيران) 2013 كلها توحي بأن الإنسان المصري قرر أن يحدد مصيره ومصير وطنه من خلال الأخذ بزمام المبادرة بشكل عقلاني٬ وربما نتيجة لإخفاق هذا العمل العقلاني٬ احتفى المجتمع المصري بأغنية أحمد شيبة «آه لو لعبت يازهر٬ واتغيرت الأحوال٬ وركبت أول موجة في دنية الأموال»٬ والتي تبحث عن التغيير٬ ليس السياسي هذه المرة٬ ولكن الاقتصادي (دنيا الأموال) عن طريق الحظ وليس العقل. فهل فشل ثورتين في إنجاز التغيير والتحول سياسيا أو اقتصاديا هو الذي أدخل المصريين في دنيا الحظ وضرب الودع بدلا من الخيارات العقلانية (choice rational(؟ أم أننا نتحدث عن ظاهرة أعمق تمثل اهتزازا أكبر وتصدعا في الهوية التي

لا يمثلها عبد الباسط حمودة٬ الذي «تعب من المفاجأة» وبدأ يشك أن ما يراه في المرآة «دي مش ملامحي» أو ملامح بلدي هو نهاية قصته٬ بل هي رؤية أكثر اضطرابا في أغنية عمرو سعيد «الدنيا زي المرجيحة يوم تحت وفوق.. في خلق عايشة ومرتاحة وفيها ناس مش فوق». والتي تجسد أيضا التفاوت الطبقي الذي يؤدي إلى أعلى درجات الإحباط. ومع ذلك يبقى دور الإنسان محدودا في التغيير؛ فالدنيا هي التي تعطي وهي التي تأخذ من تحت لفوق والعكس٬ والنظر إليها بوصفها مرجيحة والاستمتاع بكل لحظاتها٬ سواء فقر أم غنى هو الحل الوحيد مع إنسان يفتقد الانتماء والهوية إلى أي مجموع صغير أو كبير:

«الدنيا لما بتدينا بنفرح ونقول السعد جانا ويا ريته يفضل على طول ولو أخدت منا بنتأثر والفكر يطول والله بتمرجح فيها من تحت لفـــوق».

إذن٬ هي لحظات عابرة سواء فقرا كانت أم غنى. والحظ وليس الإنسان هو محرك الأحداث الأول٬ هذا إذا كان لديك قليل من العقل أو أن ما يحركها هي أمور غامضة وغير مفهومة على مستوى الدولة أو المجموعة الصغيرة التي ننتمي إليها سواء قبيلة أم طائفة.

السؤال الآن هو: هل ما يحدث في مصر الآن مختلف بشكل لافت عما كان يحدث منذ زمان ومدرسة «أركب الحنطور واتحنطر» عند سعد الصغير٬ أو من قبله قدرية أحمد عدوية في «زحمه يا دنيا: «أو «على كوبري عباس؟».

فإذا كان كل من عدوية وسعد الصغير هما بداية الاهتزاز الناتج من ارتطام الحداثة بالوطنية الهشة٬ فإن كلا من عبد الباسط حمودة وأحمد شيبة يأخذاننا إلى عالم ما بعد الحداثة في بدايته المتمثلة في مسرح صامويل بيكيت٬ وإدوارد آلبي٬ وهارولد بنتر واللامعقول٬ إلى ما بعد الحداثة في عالم كل من جاك دريدا وميشيل فوكو٬ أو في حالة عمرو سعيد إلى عبثية الأقدار٬ وعدم التأكد في عالم دونالد ترامب و«وما بعد الحقيقة» كما تصورها مدارس ما بعد «الديكونستركشن» (ما بعد التفكيك) في النقد الأدبي٬ وفي كل هذه الحالات نجد أن الإنسان الشعبي قادر على الانسلاخ من وطنية مصنوعة من فوق٬ تركب على عالم يسعى إلى حريته السياسية والثقافية والاقتصادية في معادلة مغشوشة٬ على حد قول عمرو سعيد»:

الدنيا سيما بطبيعتها كلها أفلام

نمثل فيها وبنخرج كمان

لو عجبك دورك بتكمل وتقول يا سلام

ولو خانك حظك تتمنى لو روحك فوق

وأنا لسه بتمرجح فيها من تحت لفوق».

قد نلوم إنتاج السبكي على ما يمكن تسميته بكارثة ثقافية٬ ولكن حجم الإقبال على هذه الأغاني التي تبدو من إنتاج القاع يوحي بأننا أمام ظاهرة تحتاج إلى نقاش جاد.

فإلى أي مدى ستقودنا «أنا مش عارفني»؟

arabstoday

GMT 00:04 2024 الإثنين ,01 تموز / يوليو

هل ينقسم الحزب الديمقراطي؟

GMT 00:09 2024 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

إعادة إعمار العقول والقلوب

GMT 00:09 2024 الإثنين ,27 أيار / مايو

ثلاثة أحداث فارقة ومستقبل الدولة الفلسطينية

GMT 00:01 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

البطيخة: العنصرية والمقاومة

GMT 00:51 2024 الإثنين ,13 أيار / مايو

الكويت: بين المشروع وإعادة النظر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«أنا مش عارفني» «أنا مش عارفني»



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab