بورخيس وأنا

بورخيس وأنا

بورخيس وأنا

 العرب اليوم -

بورخيس وأنا

مأمون فندي
بقلم - مأمون فندي

كنت، كسائر الناس، غارقاً في تفاصيل عالمي الذي بدا مغلقاً أمامي. ولذلك كان السفر بالنسبة لي فتح كوة في هذا العالم المغلق، فتحتها من قبل عبر خيالات كتب كنت أقرأها، وطرق صوفية كنت في بداية تلمس دروبها، كانت الحروف -لا الكلمات- فيها ذات مغزى. عرفت فيها معنى «الألف» عند مولانا محيي الدين بن عربي (المولود في الأندلس عام 1164، المتوفى في دمشق عام 1240) في فتوحاته، وعرفت الـ«هو»، ذلك الاسم المذهل من أسماء الله الحسني الذي كان يلقّنه شيخي في الطريقة لمن هم أكبر منى سّضناً.

وللـ«هو» أسرار عظيمة لا يدركها إلا من دخل من مدخل التجليات والفتوحات؛ ربما لهذا عنونَ ابن عربي كتابه بعنوان «الفتوحات المكية». ولن أطيل كثيراً هنا حتى لا نتوه في دروب لسنا مؤهلين للسير على أديمها، فابن عربي بأصل المسألة كان صوفياً عظيماً ذاع صيته في النصف الثاني من القرن الثاني عشر حتى بداية القرن الثالث عشر الميلادي، كان حالة توهج ومصباحاً أضاء لمن قبلي طرقاً ومسالك ودروباً شتى. ولكن ما علاقة ابن عربي في معركة بيني وبين الروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس؟ بدأت حياتي متعلقاً بالـ«هو» و«الألف» عند ابن عربي، حيث مثل بالنسبة لي تحدياً في فهم علاقة الإنسان بالزمان والمكان والنفس والخالق، الروح المكانية والزمانية: «الكا» و«البا» في الفلسفة الفرعونية وتعدد أبعاد الروح (dimensions).

فلفظ الجلالة «هو»، الذي رآه ابن عربي كحروف مضيئة بيضاء على بساط من اللون الأحمر، كان من تجليات العزلة والتصوف: إني نذرت للرحمن صوماً؛ وهنا يحدث القرب وتحدث المشاهدة، فالرؤية القريبة تتطلب بعداً. زاغ الفؤاد عند ابن عربي، كما زاغ عند بورخيس؛ كان ذلك في بداية الرحلة. وأدركت أو اقتربت من معاني «الألف» والـ«هو» جملة عندما قرأت كتب خورخي لويس بورخيس قرب نهاية الرحلة.

كتب بورخيس قصة تشبه اللغز، سماها «الألف» (the Aleph)، قرأتها بالإنجليزية ضمن أعمال بورخيس الكاملة، بعد أن أنهيت الدكتوراه وعملت أستاذاً بجامعة جورج تاون الأميركية في العاصمة واشنطن. في تلك السنة، كنت أدرس لطلابي موضوعاً بعنوان «الأدب والسياسة»، وكان تركيزي على الرواية. في هذا الفصل، اخترت لطلابي روايات متعددة من مناطق مختلفة من العالم، مثل رواية أهداف سويف بعنوان «في عز الظهر»، ورواية سلمان رشدي «أبناء منتصف الليل» كمثال لأدب شبه القارة الهندية، واخترت من أفريقيا رواية تشنوا أتشيبي «عندما تنهار الأشياء»، ومن دولة التشيك لم أختر ميلان كونديرا الذي كان مألوفاً رائجاً كرواج باولو كويلو الآن، بل اخترت روائياً أعمق غير محتفل به في الغرب، وهو بوهوميل هرابال، وروايته «الصمت شديد الصخب»، واخترت أيضاً من الأدب العربي رواية واحدة لنجيب محفوظ، وهي «زقاق المدق». أما من أدب أميركا اللاتينية فاخترت قصة طويلة للمكسيكي كارلوس فوينتس، اسمها «كنستانسيا»، وكانت قصة كنستانسيا دائماً تذكرني بقصيدة «عابرون» لمحمود درويش، والحقيقة أن فوينتس افتتح قصته باقتباس من قصيدة درويش. وقد ظننت يومها أن أهم نص درسته للطلاب في ذلك الفصل كان قصة «الألف» لخورخي لويس بورخيس. وطبعاً لم أختر شيئاً لباولو كويلو الذائع الصيت، وذلك لأن روايته «الكيميائي» هي مجرد رذاذ من نافورة «ألف» بورخيس.

وبورخيس - كما سيتضح لاحقاً - هو غيض من فيض نافورة مولانا ابن عربي. ومع ذلك، يستحق وصف بورخيس لـ«الألف» أن نتوقف عنده قليلاً. فحرف «الألف»، كما يقول بورخيس، هو ذلك الحرف الذي لا يزيد عن سنتيمترات، ولكنه يحوي العالم بداخله؛ فيه ترى نفسك والعالم. رأى بورخيس حرف «الألف» هذا عندما نزل إلى قبو البيت في قصته المشهورة، رأى حرف «الألف» يتلألأ في ضوء أبيض تشوبه الحمرة، ورأى نفسه والكون كله في هذا الحرف، ولم يتضح له الحرف إلا كلما كان منعزلاً عنه؛ إنه شيء أقرب إلى ما تقول به «نظرية الكوانتم». ومع ذلك، لم يكن «ألف» بورخيس هو الحرف الأول من حروف اللغة العربية، بل كان الحرف الأول من اللغة العبرية الذي كان قد رسمه كرأس بقرة، أو كرأس الإلهة المصرية القديمة حتحور التي ارتد قوم موسى إلى عبادتها عندما غاب عنهم سيدنا موسى وهو على الجبل يكلم ربه ويتسلم الألواح. وفي قصة «الألف» وغيرها، ربط بورخيس الألف العبرية وضياء الحرف وأسراره بالصوفية اليهودية المعروفة بـ«الكا با لا». والمتأمل في حروف «الكا با لا» يدرك أنها كلمات فرعونية تعبر عن تجليات مختلفة من الروح، فترى «الكا» (الروح) تحلق فوق جسد الميت في صورة طائر، و«البا» تعنى البعد الدنيوي للروح، أو الأرضي في هذه الدنيا، وفيها من معاني الأرض والطين.

إذن، بورخيس يقتبس من ابن عربي صورة الـ«هو» المتلألئة التي ترى فيها الكون، ويستبدل بها «الألف»، ويأخذنا بعيداً عن صوفية ابن عربي إلى صوفية «الكا با لا» اليهودية، دونما إشارة إلى أصولها الفرعونية، ودونما إشارة منه لابن عربي. كانت تلك محاولة من بورخيس ليبعد قارئه عن ابن عربي، رغم أنه كتب قصة أخرى بعنوان «بحث ابن رشد»، فيها كلام واضح عن معلم ابن عربي ذاته (ابن رشد)، دون أي إشارة لتلميذه ابن عربي في أي من نصوص بورخيس التي نعرفها.

وفي الميثولوجيا المصرية القديمة، هناك الإلهة حتحور التي تمثل أصل الأشياء، ورأسها مثل حرف الألف في العبرية. وكما ذكرت في البداية، فأنا مولود إلى جانب وادي الملوك، وحتحور جزء من تكويني، وكذلك شيخ طريقتي الذي أخذت عنه الأسماء، وكذلك «الكا با لا»، ليس بمعناها اليهودي الحديث، بل بمعناها الفرعوني القديم الذي به قبس من نور استلهمه موسى عند الخروج، وربما لم يستلهمه قومه. وإذا كانت «ألف» بورخيس من ابن عربي، و«كيميائي» باولو كويلو من «ألف» بورخيس، فلا داعي إذن للتوقف عند باولو كويلو وصحاريه. وإذا كانت «الكا» و«البا» من الديانة الفرعونية، فلا لزوم للتوقف كثيراً عند الصوفية اليهودية المعروفة بـ«الكا با لا».. وتلك معركتي مع بورخيس. وهذا جزء من كتابي المقبل «السياسة والعمران».

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بورخيس وأنا بورخيس وأنا



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 04:28 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان
 العرب اليوم - تناول الزبادي الطبيعي يومياً قد يقلل من خطر الإصابة بسرطان

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة

GMT 01:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف مناطق إسرائيلية قبل بدء سريان وقف إطلاق النار

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab