بقلم - مأمون فندي
في ردي على مقال السفير أحمد أبو الغيط في الأسبوع الماضي، طرحت دورَ الجامعة العربية كملتقى للحديث عن تحديات الأمن الإقليمي، وأضيف إلى الرد على مقال السفير أبو الغيط اليوم رداً على مقال الدكتور رضوان السيد «التضامن العربي وإعادة بناء النظام»، («الشرق الأوسط»، 3 يوليو/ تموز 2020)، وذلك لأن كليهما يقترب من الحديث عن الأزمة دونما مواجهتها في أبعادها الكاملة.
في مقالي هذا سأرسم ملامح ونوعية الأمن الإقليمي الذي وعدت به في مقال الأسبوع الماضي كبداية لحوار جاد حول أزمتنا الإقليمية، ولا يكن عندك شك أن منطقتنا في أزمة وورطة حقيقية فيما يخص سؤال الأمن والاستقرار. وهنا سأقترب من الحد الأقصى في الطرح من أجل تركيز التفكير إذا كان هدفنا هو الحد الأدنى من التعاون من أجل الاستقرار والأمن الإقليمي.
بداية لا يمكن الحديث عن الأمن الإقليمي في المطلق دونما أمثلة توضح أهمية المشاركين في الحديث عن الأمن الإقليمي، بمعنى إذا قررت الجامعة العربية اليوم دعوة الأطراف للحديث عن الأمن، فمن تدعو؟ لنأخذ أمثلة من المناطق التي يبدو فيها الحوار حول الأمن ملحاً ونتحدث عنها بعقلانية. وأول هذه الأمثلة الأزمة السورية. تحديات هذه الأزمة التي تطرحها على الإقليم تتمثل في النازحين والمهاجرين والإرهابيين وربما تهريب الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار. فإذا قررنا الحديث عن سوريا ودعونا قمة مصغرة لجوار سوريا المباشر، فمن ندعو؟ جوار سوريا المباشر خمس دول: الأردن، والعراق، ولبنان، وتركيا، وإسرائيل. هذه هي الدول المعنية بشكل مباشر بتبعات الأزمة السورية. فهل تستطيع الجامعة أن تجمع هؤلاء في غرفة واحدة للحديث عن سوريا؟ بالطبع لا، فحسب العادة، فإن إسرائيل لن تدعى، وذلك نتيجة لاتهامات جاهزة سلفاً (من فكرة الحوار كبوابة خلفية للتطبيع إلى غير ذلك من الكليشيهات الجاهزة)، ولكن هذه ليست نقطتي الرئيسية، فالنقطة هي أننا وقبل أن نبدأ الحديث عن الأمن الإقليمي بصورته المصغرة اضطررنا لأن نحذف من قائمة المدعوين أقوى دولة مجاورة لسوريا وهي إسرائيل. إذن لن ندعو إسرائيل، فمن هي الدولة الأخرى التي لن ندعوها إلى الاجتماع؟ كما خمنت عزيزي القارئ، فنتيجة لما يحدث في ليبيا وغيرها، فلن ندعو تركيا إلى طاولة الحوار حول الأمن الإقليمي والأزمة السورية. إذن حذفنا أقوى دولتين، فيتبقى معنا الأردن ولبنان والعراق، وباستثناء الأردن فالبقية دول تعاني من عدم استقرار داخلي يجعل سؤال الأمن الإقليمي ثانوياً على أجندتها. إذن في أزمة سوريا حذفنا أقوى دولتين من دول الجوار التي تحتل أراضي سورية، ولا نريد الحديث مع أي منهما، رغم أنه ليست لدينا خيار في الوقت الراهن، على إنهاء احتلالهما للأراضي السورية.
النقطة هنا حتى هذه اللحظة ليست التوصل إلى حل للأزمة السورية، ولكن استخدام الحالة السورية كمثال لتوضيح المصاعب التي تواجه بداية أي حديث عن الأمن الإقليمي في أصغر صورة، من حيث تعريف المنطقة الجغرافية التي يشتملها الأمن الإقليمي والقضايا المطروحة للنقاش.
بالطبع لا بد من دعوة الدول التي تتدخل بشكل مباشر في الأزمة السورية متمثلة وبترتيب قدرات الدولة وحجم الوجود في سوريا؛ وهي روسيا وإيران والولايات المتحدة. وهنا لن تكون هناك غضاضة للجامعة أن تدعو كلاً من روسيا وأميركا، ولكنها ستجد صعوبة كبيرة في دعوة إيران. إذن لنحذف إيران من قائمة المدعوين لطاولة الحوار. ومن هنا يكون حذف أكبر وأقوى ثلاث دول إقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا) من طاولة الحوار، أول عمل نقوم به قبل أن نبدأ الحديث عن الأمن الإقليمي. ومن منظور القوى العظمى المشاركة (روسيا وأميركا) يكون الحوار قد فرغ من قيمته الأمنية قبل أن يبدأ، نتيجة لغياب أكبر قوى إقليمية. هذه هي المشكلة الأولى.
ويمكن تطبيق المثال السوري على البؤر المشتعلة في بقية العالم العربي، إذا أردنا حلاً لأزمة سد النهضة الإثيوبي، فمن ندعو لطاولة الحوار؟ وإذا أردنا حلاً للأزمة اليمنية، فمن ندعو؟... وهكذا.
فإذا كانت تلك طريقتنا في دعوة من يكون حاضراً ومن لا يكون مدعواً، فكيف يمكننا إذن الحديث عن نظام أمن إقليمي للشرق الأوسط، أو أمن إقليمي عربي أو حتى نظام أمن إقليمي ثانوي (regional subsystem) مثل أمن الخليج؟
لا شك أن تجمع أمن الخليج المتمثل في مجلس التعاون الخليجي ربما هو أفضل التجمعات الإقليمية الثانوية وحقق نجاحات في حل مشاكله الداخلية، رغم أنه لم يختبر بشكل كافٍ في الدفاع عن مصالحه تجاه التهديدات الخارجية، إلا في حالة تحرير الكويت عام 1991 التي أثبت فيها المجلس قدرته على التعاون الجاد من أجل تحرير الكويت من عدوان عربي، ولا أدري إذا كان ذلك ممكناً لو لم يكن العدوان عربياً؟ إيرانياً مثلاً؟ ومع ذلك وبعد أزمتي قطر واليمن نرى تصدعاً واضحاً في جدران هذه المنظومة الثانوية للأمن الإقليمي.
السؤال هنا وبعد النظر إلى الأطراف المعنية بشكل مباشر في أزماتنا العربية كما نظرنا في المثال السوري أعلاه، هل يمكننا التفكير خارج الصندوق وخارج الرؤى التقليدية المتوارثة للحديث عن الأمن والاستقرار في المنطقة لندعو لمؤتمر أمن إقليمي يشمل كلاً من إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا مثلاً لنتحدث عن اليمن وليبيا وسد النهضة والأزمة السورية بطريقة أكثر واقعية وجدية؟
الكتابة الإنشائية حول أزمة الأمن والاستقرار في المنطقة، هي مجرد تحبير لأوراق وبات لزاماً علينا أن ننتقل من عالم الإنشاء إلى عالم الواقعية والتفكير الجاد.
إسرائيل ليست أفضل منا في التفكير المتخلف الرافض للحوار، رغم الأهمية البالغة والوجودية للقضايا محل النقاش، فعلى سبيل المثال عندما طرحت مصر من خلال وزير خارجيتها عمرو موسى مبادرة خلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، كان يمكن لإسرائيل لولا تخلف وتردد بعض قيادتها أن تمسك طرف الخيط من أجل الدخول في حوار حول هذا الملف، من أجل بناء الثقة إقليمياً، ولكنها فشلت في ذلك، وظني أن العقلاء داخل إسرائيل ممن لديهم بعض من التدريب والتعليم في قضايا الأمن الإقليمي يعضون على أصابع الندم اليوم، نتيجة فشلهم في القبول بتلك المبادرة، التي كان من الممكن أن تكون بداية حوار إقليمي حول إطار إقليمي جاد لأمن الشرق الأوسط كله وبناء ثقة غير مسبوقة.
ومع ذلك حتى لو قبلت إسرائيل تلك المبادرة، يبقى أمام أي صانع قرار جاد أن يسأل الأسئلة الأولية حول: أولاً تعريف معنى الشرق الأوسط وحدود منظومة الأمن الإقليمي الجديدة، فهل يشمل التعريف دولاً كإيران وإثيوبيا وتركيا؟ تركيا مثلاً اختارت توجهاً أوروبياً من خلال وجودها في حلف الناتو، رغم هويتها الشرق أوسطية، فهل يمكن أن تكون تركيا ضمن نظامين للأمن؟ وإسرائيل ترى أن الحديث مع إيران من المحرمات.
وكيف يمكن التعامل مع أطر أمنية في المستوى الثاني (subsystem) ناجحة مثل مجلس التعاون الخليجي؟ أو بناء تجمعات على المستوى الثاني مثل أي تجمع شمال أفريقي للتعامل مع الأزمة الليبية، أو أفريقي للتعامل مع مشكلة مياه النيل (water regime) وسد النهضة؟
رغم كل المشاكل الأمنية التي تعصف بالمنطقة، ومن خلال متابعتي للحديث حولها لم أرَ حتى الآن حديثاً جاداً يليق بخطورة التحديات والتهديدات الإقليمية الحالية والمستقبلية، التي تجعل المنطقة من أكثر مناطق العالم تخلفاً فيما يخص حوار الأمن الإقليمي.
ماذا لو فشلت الجامعة العربية في التقاط خيط النقاش حول حوار الأمن الإقليمي العربي، أو الأمن الإقليمي الأوسع الذي أطرحه هنا؟
بداية أقترح أن تقوم مؤسسة مدنية لبدء تلمس ملامح القواعد الأساسية للحوار، فمثلاً يمكن لصحيفة كـ«الشرق الأوسط» أن تطرح سؤال الأمن الإقليمي على عشرة أو عشرين من المتخصصين في قضايا الأمن، لطرح إجابات خلاقة حول هذا السؤال في صيغة مقالات على صفحات الرأي. ولتسهيل مهمة الحوار أطرح هنا بعض الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة من المتخصصين، حيث إنها تمثل العمود الفقري لأي حوار حول أزمة الأمن الإقليمي: أولها أسئلة تعريف المنطقة التي سيتناولها الحوار، وما القضايا ذات الأولوية الملحة؟ ثانياً: ما أهداف هذا الحوار؟ وأقترح هنا أن يكون الهدف في إطار الحد الأدنى، وهو التوصل إلى ميثاق سلوك بين الدول (code of conduct) كقاعدة أولية لبناء الثقة. ثالثاً، ما ميكانيزمات الأمن الإقليمي وتحدياته؟ أما السؤال الرابع فيجب أن يكون عن إمكانيات التنسيق الاستراتيجي بين الدول المشاركة في الحوار، وخامساً تحديد ملامح الفجوة بين مؤسسات الأمن الإقليمي القائمة والطبيعة الجديدة للتحديات الاستراتيجية. أما أسئلة التمويل وطريقة اتخاذ القرار داخل مؤسسات الحوار الاستراتيجي فترجأ لمرحلة مقبلة.
وقبل أن أصل إلى ختام هذا المقال، لا بد من التأكيد على أمر أساسي، وهو أن حواراً جريئاً وتفكيراً خارج الصندوق، مثل الذي أطرحه هنا مع الجوار غير العربي، لا بد أن تسبقه رؤية عربية جادة حول أهداف الحوار وكيفية إدارته. رؤية عربية تحظى بالإجماع بين الدول العربية، وإن تعذر هذا، وهو وارد جداً، يجب أن يحظى هذا الحوار على التوافق بين الدول المؤثرة. إن غابت هذه الركيزة الأولية فإن حواراً عربياً مع الجوار غير العربي بالطريقة التي أطرحها هنا، قد يتسبب في مزيد من الانقسام والتشرذم ليقضي على ما تبقى من حد أدنى للاتفاق العربى.
في الختام أقول إننا نحتاج إلى حوار جاد يقوم على تنسيقه متخصصون للحديث عن أزمة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، التي تتدحرج تدريجياً لتصبح كارثة، وقد يؤدي هذا النقاش في نهايته ربما إلى ملخص يصلح كورقة بيضاء تعرض على القادة تمثل أفضل التصورات الممكنة والواقعية للتعامل مع قضايا الأمن والاستقرار في المنطقة.