بقلم - مأمون فندي
لكل منا لحظات يراجع فيها نفسه ليغير سلوكاً ما، وأجدني واقفاً في هذا المفترق فيما يخص الشاشات الصغيرة والسوشيال ميديا، وهناك أحداث تكون فارقة في حياتنا تتطلب منا التأمل وبدء رحلة داخل النفس، خصوصاً أن الرحلات خارجها أصبحت قريبة من المحال في زمن الوباء، ومع ذلك فالسفر إلى دواخل النفس هو أمر شخصي لا يهم القارئ كثيراً، المهم في تجربتي ما هو عام أو قد يكون مشتركاً مع أناس مثلي، وبهذا يكون للموقف من السوشيال ميديا معنى أوسع وتبعات أكثر عمومية تحث الآخرين على التأمل والتفكير.
السبب الأول، الذي قد يشاركني البعض أهميته، هو أن دراسات كثيرة تشير إلى أن أدوات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما هي نوع جديد من الإدمان. فرغم النشوة الأولى والاحتفاء بأدوات التواصل كفكرة تؤدي إلى دمقرطة المعلومات، فإن نتائج الدراسات الأولية تشير إلى عكس ذلك. فالناس لا يكتب بعضهم إلى بعض من أجل تواصل يوسع من مساحات الإدراك، ولكنهم يكتبون لتلك الآلة أو الكومبيوتر الكبير الذي يكافئنا بلايكات أو ريتويت وأحياناً تريندنغ، وإذا ما حصل أن أحدنا وصل إلى حالة الـ viral (سعة الانتشار للتويت أو البوست) يزيد استخدامه لأدوات السوشيال ميديا بحثاً عن لذة تلك اللحظة التي حدثت مرة واحدة في حياته بالصدفة وقد لا تحدث ثانية. ولكنها حالة الإدمان التي تجعل الناس يتصورون أنهم يوماً ما سيربحون الـ lottery أو اليانصيب الأوروبي الذي يصل أحياناً إلى أكثر من مائة مليون دولار في السحب الواحد، ولكن الحقيقة هي أن فرصة ربح من يشارك في السحب هي واحد من كل مائة وأربعين مليوناً، أي شديدة الندرة.
يقول الباحثون في الإدمان إن مدمني المخدرات بأنواعها يحاولون استرجاع النشوة الأولى التي حدثت مع حالة التعاطي الأولى، وهي نشوة وهمية غير قابلة للاستعادة الكاملة، قد يقترب منها المدمن ولكنها ليست ذاتها تماماً، لذلك يستمر في التعاطي في حالة بحث دائمة ومستمرة، ولا يقتنع المدمن بعدم وجود تلك النشوة الوهمية إلا بعد علاج طويل الأمد. وكذلك الحال مع السوشيال ميديا، بحث مستمر على تأكيد الذات والأهمية الشخصية من عدد لايكات وإعادات تغريد وتعليقات لا تعكس بالضرورة قيمة الكاتب أو أهمية المتلقي ولكنه الوهم، ومع ذلك ليس سهلاً أن تقنع نفسك أنه وهم. ومهم هنا أيضاً أن أوكد أن الإدمان ليس للمتفاعل وحده، فهناك من لهم حساب على «تويتر» ويتعاطى سلبياً كالمدخن السلبي، وهؤلاء الذين يتخفون حول أسماء وهمية متفاعلة أو خلايا نائمة، هؤلاء يحتاجون علاجاً بجرعة أكبر، فهذا حال المدمن الذي لا يعترف أنه مدمن.
سألت نفسي لماذا يكتب الناس، ومن دون مقابل وكل يوم وربما كل ساعة، لهذه الآلة الوهمية التي تبتلع كل شيء وتحوله لمجرد خزين بدائي وليس معلومات؟ الكتابة كانت يوماً ما حرفة، من يجيدونها يتلقون مقابلاً مادياً جراء القيام بها بإتقان، اليوم أصبحت الكتابة بلا مقابل. فهل أصبحت الكتابة فقط بحثاً عن تأكيد الذات وأهميتها؟ ولأنني من الصنف الأول قررت أن الكتابة من دون مقابل هو أمر يدخل في عالم النرجسية والإدمان.
التوقف عن السوشيال ميديا أمر ليس بالسهل على من دخل هذا العالم من إدمان الكتابة من دون مقابل، فمنذ أكثر من ثلاثة أعوام توقفت عن «فيسبوك»، ولكن عقلي تلاعب بي في حيلة مفادها أن «تويتر» هو أداة أكثر عقلانية للتواصل، أي أن عقل الإدمان بدلاً من قبول حالة الامتناع عن «فيسبوك» أحالني إلى وسيلة بديلة عوضاً عن التوقف التام، واستمرت كتابتي في «تويتر» لعدة أعوام لاحظت معها أن عقلي المدرب على البحث والتقصي طوال سنوات الماجستير والدكتوراه والتدريس والبحث العلمي قد بدأ تدريجياً في الاضمحلال، ودخل في منافسة نحو القاع، وهنا قررت أن أضع حداً لهذا الانهيار.
ذات يوم حدثني صديق أثق بحكمه على الأمور، تعرفنا على بعضنا منذ ما يقرب من ربع قرن في سياق أكاديمي ونبهني لحالة الانهيار التي أصابت من هم أفضل مني تفكيراً، حيث أكلت ماكينة «تويتر» و«فيسبوك» عقولهم، كما تأكل المخدرات عقول المدمنين، أو كما أكلت دابة الأرض منسأة سليمان. هذه المكالمة كانت لحظة فارقة في موقفي من السوشيال ميديا، وذلك لثقتي بصديقي الذي حادثني.
ربما يكون تأثير السوشيال ميديا لمن هم في عمري ممن عرفوا التواصل الاجتماعي المباشر ولم يعرفوا التليفون العادي إلا في سن الشباب، وربما كانت فكرة الارتباط العالمي من خلال الإنترنت بالنسبة لهم من معجزات الخيال العلمي، يكون إدمان الشاشات الصغيرة عندهم أقل، لذا لا بد أن نفكر في مجتمع جديد مولود وفي يده تلك الشاشات الزرقاء الصغيرة.
هنا يصبح ضرورياً على المؤسسات الأساسية: الأسرة والمدرسة والدولة أن ترشد السلوك فيما يخص هذا الإدمان الجديد.
كان الخروج من «فيسبوك» منذ أربعة أعوام نوعاً من الموت الرمزي على تلك المنصة، والآن قررت أن أجرب الموت الرمزي على «تويتر». الموت الرمزي يحدث في حالات الإدمان قبل الموت الحقيقي، ولكنْ في ذلك إنقاذ للنفس وللعقل، فالتضحية أو ذبح الأنا على منصات التواصل نوع من التقرب إلى العقل قبل أن تحتل آلة «تويتر» و«فيسبوك» وغيرهما ما تبقى من مساحات عقل قادرة على الكتابة الإبداعية.
أذكر ونحن صغار كنا نذهب إلى البريد لجمع أوراق بها رسائل التلغراف، خصوصاً في حالات العزاء، وكان التلغراف أكثر اختصاراً من «تويتر»، لأن لكل كلمة سعراً ما عدا توقيع المرسل، وكان التلغراف يكلف عشرة قروش تقريباً للعزاء فكانت الكلمة بقرش. كان الناس يختصرون في كلام غالٍ، أما «تويتر» اليوم فيختصر في 240 حرفاً.
ذات مرة وقفت أمام سيارة أنظر في الزجاج من أجل أن أعدل ربطة العنق، أي استخدام زجاج السيارة كمرآة، وفي حالة الهوس بالذات والاهتمام بضبط ربطة العنق لم ألاحظ أن هناك أحداً بداخل السيارة يرون في نظرتي وتركيزي تطفلاً على عالمهم المغلق، لم أتوقف للحظة لأفكر في أنني أستخدم زجاج سيارة غيري كمرآة حتى رأيت عيون رجل وسيدة بالداخل ينظران إليّ كأني أحمق يراقبهما، وهكذا السوشيال ميديا، لذا لزم التوقف. ولكن الاختبار الحقيقي هو مدى دوام هذا التوقف، فقد حاولت من قبل الإقلاع عن التدخين وباءت محاولتي بالفشل، فهل مصير الإقلاع عن السوشيال ميديا مثل الإقلاع عن التدخين؟ الأيام قد تكشف مدى جدية هذا القرار.