هل هناك ما يمكن كتابته عن احتجاجات الولايات المتحدة ضد عنف الشرطة تجاه الأميركيين من أصل أفريقي أو الأقليات عموماً لمْ يكتب بعد؟ ظني أنَّ فهم التجربة الأميركية في إطارها الدستوري والقانوني هو الذي لم يحظَ بنقاش فيما يكتب بالعربية، خصوصاً فيما يتعلَّق بصلاحيات الرئيس في استخدام قوة الجيش في نظام فيدرالي واضح المعالم والحدود بين ما هو من شأن الولايات وما يخص الحكومة الفيدرالية.بداية الاحتجاجات في أميركا لا تهدف إلى تغيير النظام أو قلب نظام حكم. فمهما اختلفت آراء الأميركيين فجميعهم يقبلون بالنظام، فقط يريدون إصلاحه محلياً أو فيدرالياً، لكن ليست هناك دعوة واحدة تقول «الشعب يريد تغيير النظام». ولا ننسى أن الولايات المتحدة وفقاً لدستورها ليست ديمقراطية بل جمهورية. قد يريد البعض توسيع الصندوق ولكن لا أحد يريد تكسيره. وهذه أول محددات الاحتجاج على العنف الشرطي ضد المواطنين.
المحدد الثاني هو تلك العلاقة بين المجتمع والحكومة الفيدرالية التي ينظر إليها الناس بريبة. فالدستور الأميركي في مادته الثانية يجعل حق حمل السلاح لكل مواطن وتكوين ميليشيات لصد جور الحكومة الفيدرالية وظلمها إذا لجأت إلى العنف ضد المجتمع. فليس الاحتجاج هو الأداة الوحيدة ضد ظلم الحكومة، بل تكوين ميليشيات مسلحة للوقوف ضد الظلم حق دستوري أيضاً. وجاءت هذه الحقوق ضمن عشرة تعديلات تشريعية قدمها جيمس ماديسون، وهو أحد الآباء المؤسسين للدستور الأميركي، لتقليل مخاوف الناس من فكرة النظام الفيدرالي التي كانت تمثل نزعة قوية داخل الولايات. فحسب التعديل الثاني للدستور «فإن وجود ميليشيات منظمة هو أمر ضروري لاستقرار وأمن أي دولة حرة، وأن حق الناس في حمل السلاح أمر لا يمكن المساس به». وجميع التعديلات العشرة هي للحفاظ على الحقوق للأفراد والولايات. ويحدد التعديل التاسع أن هذه التعديلات الخاصة بالحقوق لا يمكن تغييرها أو المساس بها. الفكرة هي الحفاظ على حقوق الولايات بالأفراد تحت مظلة النظام الفيدرالي.
فهم هذه الحقوق الدستورية هو بداية تلمس مفاتيح الفهم للاحتجاجات الأميركية. ومن هنا لا يكون هناك وجه للمقارنة بين ما يحدث في أميركا ذات المعالم الدستورية المحددة، والربيع العربي أو حتى ربيع براغ، فالأنظمة التي تحدث فيها الاحتجاجات تحدد ملامحها ونتائجها أيضاً.
الدستور الأميركي بصيغته وباعتقاد الأميركيين فيه الذي يشبه العقيدة الدينية التي لا تمس، هو ما يجعل أميركا مختلفة عما سواها.
هناك حدثان قد يوضحان ما ذكرت ويستحقان التوقف عندهما؛ الحدث الأول يخص الاعتذار الذي تقدَّم به رئيس أركان الجيش الأميركي الجنرال مارك ميلي أثناء كلمته في حفل تخرج الضباط من جامعة الدفاع الوطني، إذ قال: «ظهوري (مع الرئيس) في هذا الظرف وفي تلك الأجواء خلق انطباعاً بأنَّ الجيش يتدخل في الشؤون المحلية. ولم يكن لي أن أوجد في هذا المكان». وهو يشير بذاك إلى وجوده مع الرئيس دونالد ترمب أمام كنيسة القديس بول، عندما رفع ترمب الإنجيل أمام عدسات الإعلام. مسألة تدخل الجيش في الشأن الداخلي الأميركي هو أمر محرم لدى قادة الجيش، إلا في لحظات محددة أساسها قانون إنهاء التمرد أو العصيان (insurrection act)، وهو قانون محدد يسمح بتدخل الجيش عندما يتعرض الدستور للخطر. ظهور رئيس الأركان مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لالتقاط صورة له وهو يحمل الإنجيل أمام كنيسة القديس بول على الناحية الأخرى من البيت الأبيض بعد عبور ميدان لافييت كان غلطة جعلته يتصل بحكماء من أصدقائه ومعلميه ليناقش استقالته من منصبه. الرجل لا يريد أن يلوث تاريخه العسكري بلحظة تخلق انطباعاً بأنه يؤيد تدخل الجيش في السياسة المحلية. وتلك وصمة لا يصح لعسكري أميركي أقسم على حماية الدستور أن يقربها.
اللحظة الثانية هي دعوة ترمب لحكام الولايات المختلفة بتفعيل قوة الحرس الوطني لقمع الاحتجاجات في ولاياتهم. وواضح في تغريدات الرئيس الأميركي ليحث حكام الولايات على ذلك أنه يعرف حدوده الدستورية فيما يخص علاقة الولايات المختلفة وقوانينها المحلية بالحكومة الفيدرالية.
الرئيس الأميركي وبتلخيص شديد فيما يخص قدرته على إنزال الجيش داخل أميركا لا يتعدى كونه عمدة واشنطن دي سي العاصمة؛ وهي مقاطعة محايدة بين الولايات تخضع للقوانين الفيدرالية يستطيع الرئيس أن ينزل فيها قوة الحرس الوطني والجيش، غير ذلك فالأمر مرهون برغبة حكام الولايات والقوانين الحاكمة في كل ولاية حسب مجالسها التشريعية. ولمن لا يعرف أميركا تكون الصورة واضحة في مجلس الشيوخ، حيث يتكون المجلس من مائة شيخ (سيناتور)، اثنان عن كل ولاية من الخمسين المتمثلين في الاتحاد. العاصمة لا تمثل في مجلس الشيوخ وتمثل فقط في مجلس النواب، حسب عدد سكانها.
النقطة الأساسية هي أن الرئيس الأميركي لا يستطيع إصدار أوامره للجيش بالنزول فينزل، كما قد يفعل رؤساء دول أخرى، هذا الأمر صعب حسب الصيغة القانونية الحاكمة في النظام الأميركي. الجيش الأميركي قد ينزل في الداخل الأميركي لتثبيت قيم عليا ينص عليها الدستور الأميركي، حدث هذا في ستينات القرن الماضي عندما أمر الرئيس دوايت آيزنهاور الجيش الأميركي بالنزول في ولاية اركنساه لإجبار المدارس التي كانت لا تستقبل إلا الطلاب البيض على قبول الطلاب السود. حيث كان هناك فصل عنصري في المدارس في تلك الولاية وكانت للطلاب السود مدارسهم ولا يسمح لهم بالالتحاق بالمدارس التي تستقبل الطلاب البيض. في 17 مايو (أيار) 1954 حكمت المحكمة العليا بأن الفصل في المدارس بين البيض والسود أمر غير دستوري. في 23 سبتمبر (أيلول) 1957 أمر الرئيس آيزنهاور بفدرلة (أي جعله فيدرالياً) الحرس الوطني في أركنساه لفرض اختلاط المدارس بقوة القانون.
إذن نزول الجيش في الولاية في تلك الحالة تحديداً كان لتثبيت قيم المساواة النابعة من الدستور، وأيضاً لتلبية مطالب حركات الحقوق المدنية.
ومن يتذكر مواجهة حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو مع ترمب حول سياسة الإغلاق فيما يخص فيروس «كورونا المستجد» يعرف حدود سلطة الرئيس على حكام الولايات. فقد رفض كومو رغبة ترمب وكان له ما أراد.
وهنا أتذكر أيام كتابة الدستور المصري بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وما بعدها من لجنة الخمسين، وأتذكر تعديلات ماديسون العشرة في الدستور الأميركي مقابل مناقشات الدستور عندنا، وبعد سماعي للمناقشات من القانونيين وأعضاء لجنة الخمسين أدركت أن بلداناً مثل أميركا يحق لنا أن نزورها فقط، أما أن نكتب أو نلتزم بدستور مثل دستورها فهذا أمر صعب المنال، فليس لدينا لا الرغبة ولا القدرة على إنتاج وثيقة قانونية حاكمة وملزمة للجميع كما حالة الدستور الأميركي. ولذلك تكون مقارنة الاحتجاجات الأميركية بما حدث عندنا لمجرد تشابه نزول الناس إلى الشوارع وهماً يتصور مساواة ليست موجودة بين الحالتين. وجود أمور شبيهة في عالم مختلف لا تعني أننا نشبهه، «ولكن شبه لهم».
الأميركيون قد يفقدون الثقة بالشرطة ولكنهم أبداً لن يفقدوا الثقة بالدستور. الأميركيون قد يفقدون الثقة بالرئيس، ولكنهم أبداً لا يفقدون الثقة بالدستور. في نهاية المطاف هناك حكم يلجأ إليه كل المواطنين وهو الدستور، هناك شيء يتكئ عليه المواطن اسمه الدستور، بينما عند معظمنا يتكئ المواطن على هواء.