رمضان وانثروبولوجيا الطعام

رمضان وانثروبولوجيا الطعام

رمضان وانثروبولوجيا الطعام

 العرب اليوم -

رمضان وانثروبولوجيا الطعام

بقلم : مأمون فندي

ما الذي يمكن أن تكتبه عن الطعام في رمضان الذي لم تتناوله الكليشيهات من قبل؟ أعتقد أن البداية تكون في وضع الطعام في سياقه الأوسع، وعلاقة الطعام خارج المسألة الفردية الخاصة بموضوع الجوع وربطه بالسياق الأوسع الحضاري، ومن هذا السياق تنفتح بوابات فهم الطعام في رمضان. (َوُيْطِعُموَن الَّطَعاَمَعَلى ُحِّبِه).. الآية، فأساس الطعام محبة ونَفس.

بداية، الطعام لغة ودلالات، ويحمل رمزيات اجتماعية تحدد الموقع الاجتماعي والثقافي أحيانا، وكذلك درجات الدخول من بوابة الطبيعة إلى عتبات الحضارة، فبينما يكون المشوي طعام الرجال وطعام الخارج والخلاء، يكون المقلي طعام المرأة وطعام الداخل في البيوت، وتلك تقسيمات بدائية تدخلنا إلى فهم الطعام والمجتمع، وربما الطعام والسياسة والطعام ومفاهيم أخرى كالمحبة والتراحم. فلسفة الطعام تدخلنا في مساحات التفاصيل التي تميز البلدان عن بعضها بعضا، وربما الحضارات وبعضها بعضا، حيث نتحرك في مساحة (spectrum) أطرافها الملح والسكر كونها محددات ثقافية وحضارية، حيث يكون إضافة الملح والسكر أو الزيت نوعا من التحضر ومدخلا تفسيريا لقراءة المجتمعات. وقد قسم كلود ليفي شتراوس العالم
على طرفي نقيض النيئ والمطبوخ، وكانت رؤيته أن عملية الطبخ والانتقال من النيئ إلى المطبوخ، هو بمثابة نقله من الطبيعة إلى الحضارة، ودرجات الطهي أيضا تمثل درجات في التحضر، وهذه من عندي وليس لشتراوس دخل فيها؛ ولهذا يمكن أن يكون طعام أي مجتمع مدخلا لقراءة الاجتماع والسياسة، وربما الروحانيات فيه؛ فالطعام ثقافة وسياسة وروحانيات أيضا.

حدود الطعام أيضا هي حدود الثقافات، فمثلا لم تنتشر المسيحية بشكل أوسع، إلا عندما سمحت بأكل ما حرمته اليهودية؛ لذلك ترى دائرة المسيحية أوسع، كما أن الإسلام أيضا ينتشر في دوائر يرسم حدودها الحلال والحرام من الطعام والمشروبات. إذن الطعام يحدد مساحة التمدد الحضاري أيضا، وتتوقف الحضارات عن الانتشار، عندما ترتطم بجدار ما حرمته منظومتها الثقافية من الطعام والشراب.

الهدف من الحديث عن الطعام ومن قبله العمارة هو فتح مداخل جديدة لقراءة المجتمعات. فهناك مجتمعات، مثلا، تنكر التعددية في داخلها، وتدعي أنها مجتمعات موحدة، ولكن عندما نقرأ الطعام فيه كانيا وزمانيا نكتشف أنها مجتمعات شديدة التعدد. فإذا أخذنا مصر مثالا، حيث يدعي المصريون والمستشرقون معا أنها مجتمع مصمت وموحد، نكتشف أن طعام أهل الدلتا مثلا يختلف عن طعام أهل الصعيد، وأن طعام القرى يختلف عن طعام المدن. ففي تجربتي الشخصية، مثلا، لم أتعرف على الفول المدمس بصفته وجبة صباحية إلا في القاهرة، حيث كان إفطارنا فلاحيا يتكون من البيض والجبن والبليلة.

كما أن وجبتنا الرئيسية في الصعيد كانت وجبة العشاء وليس الغداء، كما عادة أهل القاهرة مثلا، ومن هنا نكتشف أن الوجبات تختلف زمانيا من حيث الأهمية (إفطار وغداء وعشاء) ومكانيا (الشمال والجنوب)، وتنصهر الاختلافات في القاهرة. إذن من حيث الطعام مصر بلد متعدد ثقافيا وليست ثقافة واحدة. أما في بلد، مثلا، مثل المملكة العربية السعودية فتتضح التعددية الثقافية، إذا ما قارنت طعام أهل الحجاز أو المنطقة الغربية، بطعام أهل نجد وطعام أهل الجنوب أو الجوف وحائل. ولكل طعام تاريخه، فمثلا الانفتاح الحضاري لأهل مكة والمدينة يبدأ بانفتاحهم على تنوع الطعام، فمتى شهدت تنوعا في الطعام وانخراط أهل البلاد المحليين في تناوله، فاعلم أنك أمام بلد منفتح حضاريا أو قابل للانفتاح على الآخر.

أهل المدينة، مثلا، من أكثر الشعوب انفتاحا على الطعام القادم من بعيد من مصر وبلاد الشام (التميس والفول والبيض) أو وجبات مثل «المنتو» القادمة من بخارى، وربما من الصين؛ لقربها مما يعرف بالـ(Chinese dumplings) والمعجنات الصينية المحشوة باللحم أو الخضرة. كذلك وجبات مثل المندي القادم من اليمن، الخ. الطعام في مكة والمدينة معولم كما في نيويورك ولندن، فهنا كانت بداية العولمة الأولى من خلال الحج؛ كونه موسم اختلاط حضاري بامتياز. النقطة هي لو قارنت طعام أهَلي مكة والمدينة، مقارنة بالوسط أو الشمال أو الجنوب أو الشرق، لاكتشفت أن المملكة مجتمع متعدد الثقافات، على عكس الصورة النمطية التي تقدم السعوديين وكأنهم كتلة واحدة صماء لا تنوع فيها.

نوعية الوجبة التي تحددها ثقافة ما على أنها الوجبة الرئيسية تحدد أيضا علاقة المجتمع بالعمل، فمثلا المجتمعات التي تركز على وجبة الغداء الدسمة، هي مجتمعات غالبا لا تعمل بعد الظهر، مجتمعات تصيبها التخمة والكسل بعد الوجبة الكبيرة.

وعندما حاولت البحث عن الطعام والمجتمع في العالم العربي، لم أجد إلا نذرا يسيرا جًدا من الكتابات المتناثرة وغير الجادة، مع أن موضوع الطعام والمجتمع من أكثر الأمور كشفا لفكرتي الانفتاح الاجتماعي، وكذلك فكرة انخراط الوافد في المقيم (integration).

الطعام في بدايته كما الـ(ضوء)، والضوء أو النور كما ترى جزءا أساسيا في كلمة وضوء، والطعام يبدأ بالنية والطاهي عندما ينوي الطبخ بنية الغذاء يحسه متذوق الطعام، وهو ما نسميه بالعامية «النَفس» ونَفس الطعام هو ما ذكرته في البداية، كما جاء في الآية (َوُيْطِعُموَن الَّطَعاَمَعَلىُحِّبِه)، وهنا تكون نية المحبة هي الأساس في الطعام.

ترى ما علاقة كل هذا التنظير بفكرتنا عن الطعام في رمضان؟ البداية في رمضان هي تذكار لفكرة الطعام كونه تفكيكا من طعم ورائحة، وعلاقات روحية واجتماعية تنقرض في أيام السنة، حيث يتعامل الناس مع الطعام كما تتعامل السيارات مع البنزين: «تفول أو تعبأ كي تتحرك» دونما إحساس بتذوق وشم وطقوس طعام.

ثانيا، تغير الوجبات في رمضان من إفطار وغداء وعشاء إلى إفطار وسحور هو في المقام الأول، تغير في محددات الزمان. فكما في اليوم العادي يتم تقسيم الزمان على أساس الشروق ومنتصف النهار والعصر والغروب يتغير التقسيم الزماني في رمضان إلى شروق وغروب، إمساك وإفطار، ومعهما يجب أن تتغير العلاقة الروحية بالنفس والمجتمع، ومع ذلك يتصرف الناس عندنا فقط على أساس تغيير الوجبات ونوعيتها وساعات النوم دونما إدراك للمعاني الأعمق لتغير علامات الزمان والذائقة.

ثالثا، يتحول رمضان إلى حالة تشبه الكريسماس أو الكرنفال الاجتماعي من خلال موائد الرحمن والإفطار الجماعي، ويبدو في فكرة الموائد والإفطار الجماعي محاولة للتواصل والتراحم الإنساني، ولكن هذه المعاني تختفي وسط كرنفالية الحدث.

أنثروبولوجيا الأكل الجماعي تمت دراستها في بعض المجتمعات مثل المجاعة الصينية (1961 ­ 1958)، أو مجتمعات الكيبوتزيم في المجمعات الاشتراكية الدينية في إسرائيل، أما عندنا فالحديث عن الطعام لا يظهر إلا في رمضان دونما تركيز على الأبعاد الاجتماعية للطعام.

الطعام هو جزء من هوية المجتمعات وتجديد هذه الهوية، وفي رمضان تجد هناك عودة إلى الأصالة في التمور واللبن مثلا، ولكن هذه الأصالة محاطة بحداثة وتنوع لم يدرس بعد، حيث يتنوع الطعام الرمضاني من الحلويات، مثل الكنافة والقطايف وغيرهما، دونما إحساس بعولمة الطعام بصفته جزءا من العولمة المبكرة للإسلام.

وحتى في الإفطار الجماعي تغيب فكرة إعادة ترسيم حدود الهوية، فمن يقيمون موائد الرحمن لا يجلسون عليها؛ فهي للفقراء في الخارج مقابل طعام البرجوازية المانحة التي تتناول إفطارها في الداخل، وبهذا تنعكس فكرة الحضارة على الداخل والبدائية على الخارج، وفي هذا تقسيم للهوية وترسيم حدود الطبقات الاجتماعية ضد ما هو مقصود من موائد الرحمن.

نقطتان هنا، الأولى هي أن تجديد الهوية موسمي عندنا، ولا يؤدي الغرض، والإفطار الجماعي لا يرسم ملامح المساواة والتراحم، بقدر ترسيمه حدود الطبقات الاجتماعية. إن قراءة جادة لعلاقة الطعام بالمجتمع في رمضان خصوصا قد تكشف الكثير ليس عن أمراضنا البيولوجية، بل عن أمراضنا الاجتماعية، وتلك دعوة لشباب الباحثين لأخذ فكرة الطعام والمجتمع مأخذ الجدية لأنها كاشفة.

arabstoday

GMT 00:04 2024 الإثنين ,01 تموز / يوليو

هل ينقسم الحزب الديمقراطي؟

GMT 00:09 2024 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

إعادة إعمار العقول والقلوب

GMT 00:09 2024 الإثنين ,27 أيار / مايو

ثلاثة أحداث فارقة ومستقبل الدولة الفلسطينية

GMT 00:01 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

البطيخة: العنصرية والمقاومة

GMT 00:51 2024 الإثنين ,13 أيار / مايو

الكويت: بين المشروع وإعادة النظر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رمضان وانثروبولوجيا الطعام رمضان وانثروبولوجيا الطعام



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab