مصر بين العبور والتيه والثورة

مصر بين العبور والتيه والثورة

مصر بين العبور والتيه والثورة

 العرب اليوم -

مصر بين العبور والتيه والثورة

مأمون فندي

يأتي العبور ونصر أكتوبر هذا العام وكأن حرب أكتوبر حدثت بالأمس، لا منذ أربعين عاما. تركت القاهرة منذ أيام وكانت الفرحة واضحة على وجوه المصريين، لأنهم - حسب قولهم - عبروا بمصر من عالم الإخوان إلى عالم الوطنية المصرية. ويرجع الفضل في ذلك لتكاتف الجيش مع الإرادة الشعبية للملايين الذين ملأوا الساحات، مطالبين بسحب الثقة من نظام الإخوان ومن رئيس الإخوان. ورغم هذه الفرحة وهذا العبور الجديد، فإن المصريين، وكلما حلت ذكرى أكتوبر، نجدهم مقيدين بذات المفاهيم الحاكمة التي تقف حائلا بين المصريين وخيالاتهم الاستراتيجية التي من الممكن لو فتحنا الأفق قد تأخذ مصر قفزات إلى الأمام، ولكن هناك حواجز نفسية لا بد وأن يتجاوزها العقل المصري حتى ينطلق، وحتى الآن العقل المصري، ورغم الانتصارات، ما زال مقيدا. في قصة قصيرة للروائي الأميركي ما بعد الحداثي دون دالييللو بعنوان العدّاء - بتشديد الدال (the runner) - يصف الكاتب رجلا يجري ما قبل الغروب ومتى ما وصل إلى حديقة عامة مفتوحة توقف عند لافتة تقول: «الحديقة مغلقة بعد الغروب» فيستدير الرجل ويجري بعيدا ولا يدخل الحديقة. فرغم عدم وجود أسوار تمنعه من دخول الحديقة فإن الأسوار والحواجز موجودة في رأسه حيث استبطن احترام القانون واللافتات. الحواجز الموجودة لدى المصريين اليوم هي حواجز في الرؤوس لا في الواقع، وكلما تجرأ المصريون على كسرها كانت سهلة سواء في عبور القناة في أكتوبر 1973 أو في العبور بمصر من عالم الإخوان والاستبداد المتسربل بالدين، إلى مصر جديدة. كل شيء ممكن طالما كسرت الحواجز الداخلية بيننا وبين الأمل. إذا كانت هذه الحواجز قد كسرت فماذا دهاك - قد يصيح قارئ متحمس - تدعي أن المصري ما زال مقيدا في حديثه عن مغزى نصر أكتوبر ومعنى العبور وعودة سيناء؟ هنا أطرح على استحياء ثلاثة مفاهيم لم يتعامل معها العقل المصري في سياقها التاريخي الأوسع وارتباطات هذا التاريخ بمساحات الموروث المقدس، مما يجعل التفكير في هذه الأمور محفوفا بالمخاطر في فضاء اجتماعي يكاد أن يكون قد تم تديينه، تماما كما أننا أنتجنا لغة ودلالات أصبحت أدوات بناء حواجز لا تواصل، سياج سجن لغوي على عكس فكرة الأفق الرحب والخيال الاستراتيجي الذي يأخذ الأمم نقلات إلى الأمام. وهنا أطرح ثلاثة مفاهيم معلقة للحركة إذا فهمناها خطأ، هذه المفاهيم هي الثورة والعبور والتيه، وعلاقتها جميعا بالتحولات الحادثة في المجتمع المصري. أبدأ بنصر أكتوبر والثورة وسجن اللغة، فكلما حل أكتوبر أجدني معقود اللسان، لا أستطيع الحديث عن نصر أكتوبر بكامله، لأنني مثلك عزيزي القارئ سجين اللغة. نصر أكتوبر الأهم لم يكن في النصر العسكري، ولكنه كان في هزيمة عقيدة الأمن الإسرائيلية، التي أساسها خروج موسى وحماية مياه البحر الأحمر لبني إسرائيل. فكما نعرف جميعا عندما خرج موسى عليه السلام من مصر انشق البحر وابتلع جيش فرعون ونجا موسى وقومه على الناحية الأخرى، ومن هنا ترسخت في النفسية الإسرائيلية أن الماء يعصم الإسرائيليين من أي هجوم مصري، أمن مضمون بالمعجزات والقدرة الإلهية، أمن لا يتزعزع، الماء الفاصل بين مصر وإسرائيل هو الحاجز الإلهي الذي يؤمن إسرائيل من أعدائها على الناحية الأخرى، هذا هو حجر الزاوية النفسي في عقيدة الأمن عند الإسرائيليين منذ القدم. عقيدة لا تهتز ولا تتزحزح، أسطورة أمن سيطرت على الذهنية الإسرائيلية واليهودية لارتباطها بنجاة موسى وقومه من الفرعون وما تلاها من كتابة العهد والوصول إلى أرض الخلاص وأرض الميعاد، البحر هو أساس الأمان، وفي أكتوبر اقتحم المصريون البحر ولم ينشق ولم يغرق أحفاد الفرعون، ولم يكن الماء عاصما لخط بارليف من قوة الجيش المصري ومهارة جنوده. العبور المصري إلى الناحية الأخرى من البحر كان هو الهزيمة بالنسبة للإسرائيليين، ولم تكن الضربة الجوية؛ رغم أن هذا حديث فلسفي يجب ألا ينزلق إلى المماحكات السياسية. نصر أكتوبر لم يكن نصرا عسكريا للمصريين وحسب، ولكنه كان هزيمة لأسطورة الأمن الإسرائيلي، ولكننا - نحن المصريين - لا نستطيع أن نتحدث عن هذا الجانب من النصر لأننا سجناء اللغة وسط اشتباكنا مع الإسرائيليين في مساحة المقدس، نفترق عند الأرض وعند العرق، ولكننا نشتبك أو نلتقي عند نبي الله موسى. تتعقد الأمور أكثر لو أردنا الحديث عن الثورة ونصر أكتوبر معا، وذلك لأن سجن اللغة يصبح مضاعفا، فلا نشتبك مع الرؤية الإسرائيلية في أن البحر يحمي من الخطر، ولكننا أيضا نجد أنفسنا محاصرين بسؤال الخروج كعمل ثوري، فجزء كبير من دراسات التفوق التي كتبها المثقفون اليهود تدعي أن الخروج وليس البقاء هو العمل الثوري بامتياز، أي أن خروج موسى من مصر بوصفه عملا رافضا لطغيان الفرعون هو أصل العمل الثوري، خروج من أجل حياة أفضل مكانها أرض الميعاد أو القدس الجديد. وفعل التغيير هذا ليس فعلا عشوائيا بل محكوم بدستور واضح فيما يعرف بعقد سيناء أو الوصايا التي تلقاها نبي الله موسى في جبل الطور. آيديولوجيا الخروج كأساس للعمل الثوري كانت المرجعية السردية التاريخية لجماعات مختلفة من التكفير والهجرة في حال شكري مصطفى في مصر، أو تجهيل المجتمع والخروج عليه في آيديولوجيا سيد قطب، إلى آخر الجماعات المختلفة التي تبنت الخروج كعمل ثوري. أما حالتنا سواء في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 أو في 30 يونيو (حزيران) 2013 فإن البقاء وليس الخروج كان أساس العمل الثوري. لم يهرب المصريون من الفرعون بل سجنوا فرعونين إلى جوار بعضهما البعض في سجن طرة، أو أينما كان محمد مرسي وحسني مبارك اليوم. البقاء وليس الخروج هو العمل الثوري بامتياز. وهذا قد يرشد دراسات التفوق الإسرائيلية أو اليهودية عموما التي ترى الخروج وحده ولا سواه هو جوهر أي ثورة، وهنا يتفق الإسرائيليون وسيد قطب وجماعة الإخوان في جاهلية المجتمع الذي يخرجون عليه. إعادة النظر في فكرة الثورة خروج أم بقاء يمكن نقاشها وحلها، ولكن المصريين على ما يبدو غارقون في المقدس للدرجة التي انسحبت معها فكرة التيه اليهودي في أرض سيناء لأربعين عاما، وها قد حلت أربعون عاما أخرى بعد العبور إلى سيناء ولم يخرج المصريون من فكرة أن سيناء أرض التيه. فخافوا منها وفشلوا في ضمها تماما إلى الوطن الأم. سيناء أرض تيه للغرباء الذين لا يذوبون فيها كملح أرضها، ولكنها لم تكن يوما تيها للمصريين أنفسهم بشهادة معبد سرابيت الخادم الذي يعود إلى زمن رمسيس وموجود على حدود مصر وفلسطين. على المصريين اليوم التخلي عن فكرة سيناء أرض التيه التي حولت سيناء إلى مرتع للجماعات الإرهابية. بما أن أربعين عاما انقضت، فحتى تيه اليهود لم يعد تيها بعد الأربعين. إذن على المصريين اليوم إعادة التفكير في الحواجز النفسية التي تسكن العقول؛ كي نتحدث بحرية ورحابة عن فكرة التيه وعلاقتها بسيناء وفشلنا في ضمها للوطن، وعن البقاء وسجن الفرعون لا الخروج من أرضه كعمل ثوري، وعن العبور بمستوياته المتعددة وعن آفاق الثورة بمعانيها المتجددة، لنكتب دستور مصر الملزم كعهد سيناء. دستور يفتح آفاق الخيال لا دستور يسجن الوطن على حساب بقائه واستمراره. وكل عام أنتم بخير.  

arabstoday

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 06:49 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 06:47 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 06:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 06:21 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

الفكرة «الترمبية»

GMT 06:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 06:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصر بين العبور والتيه والثورة مصر بين العبور والتيه والثورة



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab