لندن ـ القاهرة سلطان العمارة

لندن ـ القاهرة: سلطان العمارة

لندن ـ القاهرة: سلطان العمارة

 العرب اليوم -

لندن ـ القاهرة سلطان العمارة

مأمون فندي

عندما تدخل لندن تعرف كيف تحكم بريطانيا على المستوى البصري، ولا تحتاج إلى أستاذ في السياسة لكي يقول كيف يمر دم السلطة في شرايين ذلك البلد، الذي كان يوما ما إمبراطورية، وهذا على العكس من القاهرة. أول ما ترى في لندن في الواقع وحتى على شاشات الـ«بي بي سي»، ذلك الباب الأسود الصغير المرقم بـ«10 داونينغ ستريت»، أو «نمرة 10 شارع داوننيغ»، الذي يخرج منه رئيس الوزراء البريطاني مع ضيف كبير يزور بريطانيا، أو يتحدث إلى الصحافة في أمر وطني مهم من حرب الفوكلاند، إلى حرب العراق، إلى مقتل الليدي ديانا سبنسر. لكن هذا الباب الأسود ليس مركز الحكم؛ هو فقط باب أسود في حجم سلطات رئيس الوزراء وصلاحياته. وما إن يتحرك بصرك بعيدا عن هذا الباب في اتجاه نهر التيمز، حتى ترى أضخم وربما أجمل شكل معماري في المدينة، في الجانب الغربي من النهر، وهو قصر وستمنستر العظيم، وبرج ساعة بيغ بن الشهيرة، هذا القصر الذي يضم مجلس العموم أو البرلمان أو مجلس الشعب هو أكبر قطعة معمارية تراها العين، فتعرف منها ببساطة أين تقبع السلطة. السلطة معماريا للشعب. وعندما تقارن حجم المبنى الخاص برئيس الوزراء مع مبنى البرلمان تعرف الحجم النسبي لسلطات كل منهما. لا تحتاج إلى متخصص في السياسة البريطانية كي يقول لك إن بريطانيا دولة ديمقراطية، وإن السلطة الحقيقية للشعب، وإن رئيس الوزراء هو مجرد شخص تنفيذي محدود الصلاحيات. إلى هنا والأمر مقبول، ولكن أين سلطة الملكة إليزابيث الثانية؟ وأين علاقة الدين والدولة معماريا؟ أيضا هنا الأمر لا يحتاج إلى فلسفة، وأستاذ سياسة مثلي كيف يفسر لك تلك العلاقات؟! كل ما تحتاجه هو أن تدير ظهرك للنهر في اتجاه حديقة غرين بارك الشاسعة لترى قصر باكنغهام حيث تقيم الملكة، وهو قصر، على الرغم من أهميته، لا يضاهي قصر وستمنستر، حيث مجلس العموم؛ فهو أقل منه في الحجم، يزينه العلم الملكي، عندما تكون الملكة في القصر، أو العلم الوطني في غيابها. ولكن حجم القصر أقل من البرلمان، أي أن سلطة الملكة مقارنة بسلطات الشعب أقل؛ تملك ولا تحكم، ومع ذلك، فإن قصرها بالطبع أكبر من بيت رئيس الوزراء، أو البيت التنفيذي في «نمرة 10 شارع داونينغ». ثم تحرك بصرك بزاوية في اتجاه آخر، فترى رمزية الكنيسة الإنجليكانية، التي تمثل عقيدة بريطانيا الدينية، ممثلة في ويستمنستر آبي، وهي قطعة معمارية رقيقة بين البرلمان وقصر الملكة في الشمال الغربي ومقر الحكومة، والكنيسة أقل حجما من البرلمان، وأقل بالطبع من قصر الملكة، وهنا يتضح لك أيضا وبصريا أن دور الكنيسة في الحكم محدود جدا، وشبه رمزي، وقريب من الملكة، وبعيد عن مبنى رئيس الوزراء. إذن، وببساطة، الشعب يمثله القصر الأكبر أو برلمان وستمنستر، والملكة يمثلها قصر أقل حجما ثم الكنيسة، ورمزية دور الدين في المجتمع، ثم مقر رئيس الوزراء. انسيابية معمارية تمثل انسيابية السلطة التي تجري في عروق شوارع لندن، وتخطيطها العمراني، مما يجعل المواطن البريطاني، وحتى الزائر، مستقرا بصريا في رؤيته لممرات السلطة وتدرجها؛ مَن يملك ماذا؟ ومَن يتحكم في ماذا؟ أمر شديد الوضوح لا لبس فيه. الشعب والقصر الملكي ومقر الحكومة والكنيسة.. كل الحكم مجسد معماريا بنسب واضحة تماما. وتبقى الثقافة حاضنة السياسة الناعمة، حيث ترى المتحف الوطني يحدّ هذا المشهد السياسي من جهة الشمال، بينما المعرض الفني الشهير بـ«تيت غاليري» يحده من الجنوب. وعلى الرغم من وجود الأكاديمية في قلب لندن، ممثلة في كلية لندن للاقتصاد، وجامعة لندن إلى آخره، فإن الأكاديمية الحقيقية تقبع بعيدا، وخارج لندن، في أكسفورد وكمبريدج، حيث يقيم رهبان العلم وناسكوه. علاقات واضحة وموزّعة ومقنعة للداخل والخارج، توضح بجلاء شرايين الحكم، وكيف يمر الدم الوطني فيه. وأنا قادم من وضوح لندن البصري للسلطة إلى لخبطة القاهرة، التي أتمنى أن تكون الرؤية فيها واضحة يوما ما. ولا يكن عندك شك أنه، وفي الأيام السالفة، كانت السلطة واضحة؛ ففي العصر المملوكي مثلا، كانت القلعة عالية على الجبل، وفي مقابلها الأزهر ببهائه وسلطته الدينية، وتدريجيا تغيرت العلاقات التي غيرت معها الدين والدولة، فبدلا من الأزهر وطريقته المعمارية التي تحتضن الدين بمعناه الراقي، انتقل المسجد أو الفضاء المقدس إلى الدور الأرضي تحت عمارة في حي شعبي. أصبح الجامع في البدروم بجوار الدكان القابع أسفل العمارة، وجوار الجراج، ومعه تغيرت لغة المسجد وقدسيته ولباس الناس الذاهبين إلى الصلاة، فبدل الزي الناصع يستسهل سكان العمارة ويذهبون للصلاة ببيجامات النوم. لا تستغرب، فما أصفه رأيته بعيني، ومن ثم، بدا الاختلاف بين التجارة في الدكان الصغير، الذي يبيع كل شيء، من الممنوع إلى المشروع، والجامع اختلافا طفيفا. تحولت لغة الدين إلى لغة البدروم والجراج. لا لغة الأزهر الأكاديمية، ولا قدسية للمكان. الدين أصبح سلعة يُتاجر بها تحت الأرض، لا فوقها. إذن، نحن لا نتحدث عن وضوح الأزهر أو كنيسة وستمنستر، ولكننا نتحدث عن حالة عشوائية، ولا علاقة واضحة بين الدين والدولة، أو بالأحرى علاقات عشوائية معمارية خلقت عشوائية فكرية ودينية، وربما روحية. ومع ذلك، مرت على مصر عصور، مثل الفترة الملكية، بداية من محمد علي، مرورا بالرجل الأهم، وهو الخديو إسماعيل، الذي أسس لعلاقات جديدة بين العمارة وتخطيط المدن والسلطة، ورسم وسط القاهرة على طريقة باريس بوضوح شوارعها وعلاقة السلطة بالمجتمع. قصر عابدين ومجلس شورى النواب والأوبرا والأزهر إلى آخر هذه العلاقات الواضحة، وقد كتبت من قبل عن عمارة الخديو إسماعيل، وعلاقتها بالحكم، وحتى الثورة، وكتبت أيضا أن الثورة كانت ثورة الخديو إسماعيل، حيث تجمهر المصريون فقط في ميادين الخديو. لا يستقيم حكم إلا بعلاقة بصرية واضحة بين الحاكم والمحكوم، تكون فيها العلاقات السياسية ممرات واضحة، فكما في لندن ترى الأمر ذاته في واشنطن عاصمة الإمبراطورية الجديدة، حيث ترى مبنى الكابيتول أو الكونغرس، حيث مجلسا الشيوخ والنواب، وحيث سلطة الشعب التي تمثلها الفخامة والضخامة المعمارية والبيت الأبيض الأقل حجما وقيمة من حيث الرسم العمراني، ثم مبنى القضاء الأعلى. السلطات الثلاث المكتوبة في الدستور الأميركي مرسومة معماريا. بلد واضح المعالم والسلطات. لا عبث فيه، ولا تغيير. في مصر، تغيرت علاقة الدين بالدولة بالمجتمع من الخديو إسماعيل وعالمه المنظم والمرسوم هندسيا، إلى عالم ثورة يوليو وجمال عبد الناصر والسادات ومن بعدهما مبارك ومرسي، وكلها أضافت ركاما على العمارة أضحت فيها العلاقات السياسية مدفونة، ولا تعرف مَن اختبأ مِن مَن؟ هل الدولة أدارت ظهرها للمجتمع تاركة لمسؤولياتها، أم أن المجتمع تخفّى من الدولة، تجنبا لدفع الضرائب، مثل الرجل الذي يقيم مسجدا في بدروم العمارة حتى تُعفى البناية من الضرائب؟! المهم أنه لا يوجد في مصر الآن أي علاقة بصرية يراها المواطن أو الزائر تعكس علاقات الحكم أو سيولة دماء السلطة في قلب المجتمع، كما في النظامين الأميركي والبريطاني. بداية إصلاح السلطة والمجتمع وتفسيرات الدين ومكانه في السلطة تبدأ من العمارة وتخطيط المدن. فإذا كانت صرة الحكم عشوائية معماريا، فتأكد أنها ستكون عشوائية اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. الحكم والسلطان عمارة، والسلطة عمران، لذا عندما كتب ابن خلدون مقدمته لفهم السياسة والمجتمع لم يتحدث عن كل هذا إلا باستخدام كلمة «العمران». في مصر، نحتاج إلى شوارع وبنايات وقباب تحدد مسار السلطة ومسار البشر ومسار السيارات. نريد جوامع تحدد ملامح المقدّس وهيبته، على غرار عمارة الفاتيكان التي تحتضن الزائرين، وعلى غرار تلك القدسية التي نحسها في مكة والمدينة، والتي يكون للعمارة فيها دور كبير. نحتاج قدسية للجامع وحرمة للجامعة، لا أن نجد أنفسنا ونحن نمشي في الشارع نُصدَم بجامعة ولا ندري؛ هل هي مركز تسوق أم جامعة؟! الجامعة دار علم، كما الجامع دار روحانية. عندما يختلط الجامع بالدكان، وتختلط الجامعة بالمول، فتأكد أنك أمام مجتمع عشوائي في القيم وفي الثقافة وفي السياسة. بداية التغير في أي مجتمع سلطة وثقافة وقيم تبدأ من العمران وتخطيط المدن.

arabstoday

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 06:49 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 06:47 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 06:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 06:21 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

الفكرة «الترمبية»

GMT 06:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 06:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لندن ـ القاهرة سلطان العمارة لندن ـ القاهرة سلطان العمارة



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab