مأمون فندي
المصريون تعلموا كيف يصنعون أجمل الثورات وأكثرها زخما وحشودا وفخامة، ولكنهم وبكل أسف حتى الآن أثبتوا أنهم أسوأ من يدير المراحل الانتقالية، ولذلك أسباب متمكنة من الذهنية المصرية ومن طبيعة المكان.
بداية، مثلما في المعمار كذلك الأمور في السياسة. فقبل الشروع في البناء لا بد من رسم هندسي محكم للمعمار حتى يريح ساكنيه ولا يسقط فوق رؤوسهم، كذلك أيضا في السياسة تكتب الدساتير أولا كرسم هندسي حاكم للمعمار السياسي ومداخله ومخارجه، وبعدها تبدأ العملية السياسية من اختيار رئيس أو برلمان، أو انتخاب حكام للمقاطعات المختلفة. المصريون يفعلون عكس ذلك كما رأينا بعد 25 يناير (كانون الثاني) 2011 يشيدون بناء سياسيا مهلهلا، ثم يكتبون دستورا يبرر لماذا يجب أن نسمي العشة الصفيح التي بنوها فيللا فارهة.. ويمتشق الكتاب أقلامهم للكتابة عن محاسن الفيللا التي هي في الواقع عشة.
ملامح ما يحدث اليوم بعد الموجة الثانية للثورة أننا نعيد مرة أخرى إنتاج العشة الصفيح وبدعاوى الشرف الوطني، بما فيها أننا سندافع عن أن يرى العالم أن العشة الصفيح فيللا حتى يتعب العالم ويعترف بذلك لإرضائنا، حيث لا فائدة من الجدل. هذا رغم أن من يحاولون ترميم نظام قديم وبناء العشش بكل أسف لا يدركون أن شباب ثورة 25 يناير ألقوا حجرا كبيرا في مياه مصر السياسية الآسنة، وانطلقت من حول الحجر دوائر أو موجات، أولاها ابتلعت ديكتاتورية العسكر التي كانت متمثلة بنظام مبارك، وجاء بعده نظام «الإخوان» فابتلعته الموجة الثانية للحجر أو الدائرة الثانية، وهناك دوائر ثالثة ورابعة ستبتلع ما سيأتي من أنظمة لا تتوافق مع تلك الهزة التي أحدثها هذا الحجر الذي رماه الشباب في المياه الراكدة.
إن لم تتحرك مياه السياسة وتأخذ في الاعتبار أن 70 في المائة من أبناء مصر تحت عمر الثلاثين عاما فإن الموجات ستستمر ويدخل المجتمع المصري في حالة الثورة المستمرة، أو ما يعرف بالـ«perpetual revolution».
المشكلة المصرية تكمن في المخيلة والذهنية وفي ديكتاتورية القاهرة على بقية الوطن التي هي الحاكم المكاني لاستبداد العسكر من قبل، والاستبداد الديني من بعد.
سأكتب كلاما فيه بعض الحب القاسي الذي أتمنى أن تتسع له الصدور، وربما ليس هذا وقته، ولكن كما أن القاهرة الحاضرة المصرية الكبرى التي تحوي أكثر من 16 مليون نسمة أضحت مجرد تجمع متراص لمجموعة من القرى بعضها جنب بعض وفقدت هوية المدينة، كذلك أصبحت المظاهرات مجرد تجميع لعدد من الموالد الصوفية، أي لو وضعت احتفالات مولد الحسين والسيدة والبدوي والقناوي لكانت لديك مليونية عظيمة، وشتان بين زحام المولد وذهنية الزحام، وبين المظاهرة السياسية ذات الأهداف الواضحة التي غالبا ما تنشد الحرية كهدف أسمى للإنسان.
أولى مشاكل النظام المصري الحديث هي ديكتاتورية المكان المتمثلة في القاهرة، وهي التي تدشن لمشروع تسلطي مستمر، فكما يقول المصريون «اللي يركب في القاهرة (أي من يحكم) يركب البلد»، ومع ذلك ليست القاهرة كمكان هي المشكلة، ولكن مخيال القاهرة وذهنية القاهرة ومعمار القاهرة (cosmology) هو لب المشكلة.
معمار القاهرة، كما كتبت في مقال سابق، هو معمار العشة، هو المسؤول الأول عن عقلية العشة، وهو أيضا المسؤول عن فشل المراحل الانتقالية، ولكن هذا يحتاج شيئا من الصبر لفهم ما أرمي إليه. فعلى عكس الغرب الذي يكون فيه سطح العمارة هو أغلى شقة في المبنى لما فيه من تهوية وما فيه من أمور مبهجة، والذي يسمى رووف غاردن أو بنت هاوس، تجد فوق كل عمارة في وسط القاهرة يعيش أناس في عشش فوق السطوح يربون الدجاج والبط وينشرون الغسيل، وعندما تذهب إلى سقف المبنى تشم رائحة زبل الحمام ورائحة الطيور، والخضرة التي تراها فوق ليست الورود التي تراها في أسطح البنايات في الغرب حيث البنت هاوس والرووف غاردن.. الخضرة في أسطح عمارات مثل حشائش للأرانب.
إذن بينما ما هو فوق في الغرب هو النظيف ذو الرائحة المبهجة، تجد ما هو فوق في القاهرة كل ما تنبعث منه رائحة كريهة. وهذا يعني أنه في مخيلة المصريين أصبح كل ما هو «فوق» كريها. قمة الهرم السياسي تكون عفنة وفاسدة كما كان الحال في نظامي مبارك ومرسي من بعده، ويبدو هذا طبيعيا لأن ما هو فوق في ذهنية معمار العشش هو القبيح والعطن. إذن لا يبدو شاذا أن سقف السياسة والاجتماع يكون كذلك. الفساد جزء من العمارة.
في ظل سيطرة هذه الذهنية، نجد أن المصريين يحتاجون ثورة ليس على النظام السياسي فقط، وإنما على رؤيتهم لأنفسهم والعالم، ولا فرق هنا بين التيار السلفي والليبرالي أو «الإخوان»؛ فعقلية العشة هي التي تتحكم، لذا كما ترى في حالة عنف «الإخوان» رمي الناس من السطوح أو من فوق كعقاب أمر طبيعي، سواء كان هذا في استاد بورسعيد أو في الأحداث التي تلت موجة 30 يونيو (حزيران). وأيضا إلى أن يكتشف المصريون أن الثورة ليست على الحكم وإنما على نظام سياسي واجتماعي برمته، ستبقى الثورة المصرية مستمرة.
ماذا يعني هذا التنظير للموت الحادث على الأرض؟ وماذا يعني للجيش الذي يريد أن يدير المرحلة الانتقالية؟ يعني كل شيء في حقيقة الأمر لو فكرنا قليلا.
أزمة المرحلة السابقة منذ 25 يناير 2011 حتى الآن هي أزمة معمار سياسي واجتماعي، فالطبيعي في البناء وفي المعمار أن يكون هناك رسم هندسي محكم للمبنى ثم يبدأ البناء. هذا الرسم الهندسي بالنسبة لمعمار السياسة والنظام السياسي المنشود هو الدستور، أي أن يكتب الدستور أولا ثم يبدأ البناء. نحدد ما هو شكل النظام السياسي؛ هل هو نظام برلماني أو رئاسي مثلا؟ هل ستستمر ديكتاتورية المجتمع النهري في القاهرة أم سيكون هناك انتخاب لحكام الأقاليم؟ إلى آخر هذه الأسئلة.
في الفترة الانتقالية السابقة أدار المصريون المرحلة الانتقالية كما يديرون مشاكلهم في البناء مع رؤساء الأحياء، أي أن تبني مبنى مخالفا للمواصفات ثم تدفع رشوة لمهندس المعاينة في مجلس المدينة ليبرر المبنى المخالف برسم هندسي بعد البناء لا قبله، ولا يهم لو سقط المبنى على صاحبه. هذا بالضبط ما فعله نظام «الإخوان» ومرسي، قاموا ببناء نظام سياسي ثم جمعوا بليل «الإخوان» والسلفيين، وكتبوا دستورا يعد الأسوأ على مستوى العالم، وصوت عليه الشعب برشوة الزيت والسكر على أنه مطابق للمواصفات.
هذه المرة يجب ألا يصر المصريون على بناء عشة ثانية كما فعلوا بعد سقوط مبارك، ويبذلوا نفس تكاليف المبنى لإقناع العالم أن هذه العشة هي فيللا أو بنت هاوس. العالم يعرف أنها عشة، ويتعامل معها على أنها عشة، ولكن إذا ما أصر المصريون على التسمية فليست هناك مشكلة. ألا يسمى المصريون كل من يمر في الطريق بالباشمهندس؟ التسمية لا تعني الكثير.
حتى لا يدخل المصريون في بناء عشة يروجون للعالم أنها فيللا ثم يكتشفون هم بأنفسهم أنها مجرد عشة، ويقررون هدمها بعد ذلك كما حدث مع نظام «الإخوان». لا بد من العض على النواجذ وكتابة دستور محترم كرسم هندسي لمعمار محترم، دستور يتماشى مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليس لأن حزب النور أو غيره يريد زواج القاصرات كما شاهدنا في مناقشات الدستور السابق، يعني أن نتغاضى على المعايير العالمية. إما أن نبني معمارا يصلح للعيش الآدمي أو لا داعي لثورات مستمرة لا يمكن توصيفها إلا بزحام المولد إذا كانت التسلطية ومعمار العشة هي نتيجتها.
الدستور أولا هو الحل السحري الذي يأخذ مصر إلى وفاق دائم ويوقف حالة الثورات المستمرة، عدا ذلك ليس لدينا إلا التناحر لنقنع بعضنا البعض أن العشة هي الفيللا المنشودة!