عندي قضايا كثيرة تبقى «القضية» أهمها، واليوم أختار للقارئ زاوية من قضية الشعر فهو يبقى جزءاً أساسياً من الحياة الثقافية للعرب في كل بلد.
في الشعر، كما في النثر، المطلوب إبداع ولكن ضمن لغة صحيحة مفهومة، وقد تبعتُ دائماً قول القرآن الكريم: لسان الذين يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (النحل 106).
المتنبي قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً / وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه / على قدر القرائح والعلوم
وقال غيره:
النحو يصلح من لسان الألكن / والمرء تعظمه إذا لم يلحن
فإذا طلبت من العلوم أجلها / فأجلّها منها مقيم الألسن
ويبدو أن هذه القضية شغلت الشعراء قديماً وحديثاً، والبحتري قال:
كلفتمونا حدود منطقكم / والشعر يغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق ما نوعه وما سببه
والشعر لمْحٌ تكفي إشارته / وليس بالهذر طولت خطبه
أما عمار الكلبي فقال:
ماذا لقينا من المستعربين ومن/ قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكراً يكون بها / بيت الخلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا غير منتصب / وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا / ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
غير أنني أعترف بأنني أحب الغموض أو الفلسفة في بعض الشعر، وأبو عمار بن نوار الشنتريني قال:
يا لقومي دفنوني ومضوا / وبنوا في الطين فوقي ما بنوا
ليت شعري إذ رأوني ميتا / وبكوني أي أجزائي بكوا
ما أراهم ندبوا فيّ سوى / فرقة التأليف إن كانوا دروا
المتنبي كان يُفاخر ممدوحيه بإبداعه وفصاحته وقدرته، وهو مدح أبا علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي فقال:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت / وإذا نطقت فإنني الجوزاء
بيني وبين أبي علي مثله / شمّ الجبال ومثلهن رجاء
وعقاب لبنان وكيف بقطعها / وهو الشتاء وصيفهن شتاء
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي / فكأنها ببياضها سوداء
حتى أبو العلاء المعري قال مفاخراً:
تعاطوا مكاني وقد فتُّهم / فما أدركوا غير لمح البصر
وقد نبحوني وما هِجتُهم / كما نبح الكلب ضوء القمر
وكان أديب مصر مصطفى لطفي المنفلوطي فصيحاً ولا جدال، وعندما توفي عام 1924 رثاه فوزي المعلوف من البرازيل فقال:
دعوها أمام النعش يعلو زفيرها / وتجري مآقيها وترخي شعورها
فما لغة الضاد التي نحن جندها / سوى دولة هذا الفقيد كبيرها
إذا جرحت صدر الكنانة رمية / فكل بلاد الضاد جرحى صدورها
لعل أفضل مَنْ صوَّر اندحار الشعر وسيادة الفقه كان الأعمى التطيلي الذي قال:
أيا رحمتا للشعر أقوت ربوعه / على أنه للمكرمات مناسك
وللشعراء اليوم ثلت عروشهم / فلا الفخر مختال ولا العز نامك
فيا دولة الضيم أجملي أو تجاملي / فقد أصحبت تلك العرى والعرائك
ويا قام زيد أعرضي أو تعارضي / فقد حال من دون المنى قال مالك
أختتم بشيء ظريف قاله محمد بن سليمان بن علي التلمساني الذي ولد في القاهرة وتوفي في دمشق وكان لقبه الشاعر الظريف:
يا ساكناً قلبي المعنّى / وليس فيه سواك ثاني
لأي شيء كسرت قلبي / وما التقى فيه ساكنان.