بقلم : جهاد الخازن
كلوفيس مقصود انتقل إلى جوار ربه. بطل القضايا العربية كلها، وليس القضية الفلسطينية وحدها، غاب عنا وسنفتقده ونذكره مع كل قضية.
كانت صحة سفير العرب إلى العالم تراجعت في السنوات الأخيرة، ومرض وتعافى ثم تعرض لنزيف في الدماغ قبل أسبوعين أو نحوهما ولم يسترد الوعي بعد ذلك.
عرفتُ الدكتور كلوفيس مقصود وأنا طالب في الجامعة الأميركية في بيروت التي سبقني إليها، وكان سفير الجامعة العربية في الهند ويرسل إلينا في «الديلي ستار» في بيروت أخباراً عن نشاطه. وقامت بينه وبين رئيسة وزراء الهند في حينه أنديرا غاندي صداقة شخصية وثقة، فكان يتبرع أحياناً بإرسال أخبار مهمة عن الهند إلينا فننشرها ويبدو وكأن لنا مراسلاً مقيماً في نيودلهي.
أكتب عن صديق ثم أحاول الموضوعية وأقول إنه كان عالي التعليم والثقافة وطنياً حتى الرمق الأخير وسريع البديهة. كان له رأي في كل موضوع والشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة كان سفير سورية في الهند ورفيق درب كلوفيس، فكان مجلس السفراء العرب إذا اجتمع يحذر عمر السفراء قائلاً: لا تسألوا كلوفيس. بيشرح. بيشرح. الشاعر أخذ الدكتور يوماً لمقابلة رئيس طائفة إسلامية محلية، وقدمه قائلاً: الدكتور محمد كلوفيس مقصود. عندما سأله كلوفيس بعد ذلك لماذا أضاف اسم محمد إلى اسمه قال الشاعر إن زعيم الطائفة يعتقد أن كل العرب مسلمون، وهو لم يحب أن يخيِّب ظنّه وقد هرِم. رحم الله عمر أبو ريشة وكلوفيس مقصود، كانا صديقين ولا صفة عندي لهما أعزّ من ذلك.
قلت إن كلوفيس كان سريع البديهة، وعندي أمثلة إلا أن واحداً منها يكفي، وهو الأقرب إلى قلبي.
دعاني كلوفيس يوماً لمرافقته في رحلة من واشنطن إلى جامعة تكساس للحديث في ندوة سياسية. ذهبت معه وجلست مع الناس في قاعة فسيحة، وكان بين المتحدثين ديبلوماسي إسرائيلي. الجدل سار بهدوء حتى قام طالب أميركي طويل نحيل وخاطب الإسرائيلي قائلاً إن الحكومة الأميركية تقدم إلى إسرائيل مساعدات ببلايين الدولارات كل سنة وهو يريد أن يعرف إذا كانت هذه المساعدات تُستخدَم لأشياء إيجابية، أو لاستمرار الاحتلال. الإسرائيلي ثار وقال للطالب إن لا حق له بتوجيه مثل هذا السؤال إليه، وأكمل كأن واجب الإدارة الأميركية أن تدفع لإسرائيل.
كان لكلوفيس حق الرد في دقيقة واحدة فوقف وقال: يا أصدقائي هذا الرجل بلاده تعيش على حساب دافع الضرائب الأميركي، ومع ذلك وقف وأهانكم، فكروا ماذا يفعل الإسرائيليون بنا في بلادنا.
الطلاب وقفوا وصفقوا طويلاً لكلوفيس مقصود، والإسرائيلي لم يتحدث بعد ذلك.
كان كلوفيس يكتب مذكراته الشخصية «من زوايا الذاكرة، محطات رحلة في قطار العروبة» ومرض وتوقف وخفت عليه، إلا أنه تعافى وأكملها وعرضتها في هذه الصفحة، وشكرته لأنه سجل فيها كلاماً لي عنه، فقد توقف أبو عمّار في مصر قرب نهاية 1983 وهو في طريقه من طرابلس إلى تونس، وسُئِلَ كلوفيس في مؤتمر صحافي في واشنطن ألم يخالف الزعيم الفلسطيني قرارات مقاطعة مصر التي اتخذت تأييداً للفلسطينيين. هو ردَّ: لا هو لم يخالف قرارات المقاطعة ولكن من ناحية أخرى لم يلتزم بها، قلت تعليقاً إن الفلسفة تعريف المجهول، و «الكلفَسَة» تجهيل المعلوم، فأصبحت كلمتي هذه صفةً له.
كلوفيس مقصود رحل في ذكرى النكبة. وطني حتى النهاية. رحم الله صديقي الحبيب البطل ورحمنا.